المقالات

تجربتي الخاصة مع الدكتور عبدالعزيز طوهري 

تجربتي الخاصة مع الدكتور عبدالعزيز طوهري 

✍️ ملهي شراحيلي

تميلُ النفوس للشخص السَمح، الهيِّن، الليِّن، ذو الروح المنبسطة الطيّبة، الذي يُحوِّل الأمور الصعبة إلى يسيرة، الذي يبتعد عن العُقَد والتعقيد، ويُشعِر من حوله بأن الحياة أكثر رحابةً واتساعاً وسهولة.

صفات تكاد تكون نادرة، وغير متواجدة إلا في الرويات الأدبية والقصص، ومن الصعب العثور عليها إلا في الأفلام والمسلسلات، لكن هذا لايعني أنها أسطورية، ومستحيلة الظهور!.

ففي الحياة أشخاصٌ كُثُر يحملون تلك صفات، أو بعضها على الأقل.

من وجهة نظري الشخصية أن السر لايكمن في ندرة أو وفرة تلك الخصائص البشرية، والصفات الإنسانية، وإنما في محاولة تصنيفنا وحكمنا على الأشخاص من حيث امتلاكهم أو افتقارهم لها، فالأحكام المسبقة المبنية على النزعة العاطفية غالباً ما تفتقد للواقعية، فتتقاطع مع المصداقية. 

ولقد صدق أبو الأسود الدؤلي، حين قال:

لا تَحمدَنَّ امرءً حَتّى تُجَرِّبَهُ

وَلا تَذُمَنَّهُ مِن غَيرِ تَجريبِ

فَحَمدُكَ المَرءَ ما لَم تَبلُهُ سَرَفٌ

وَذَمُّكَ المَرءَ بَعدَ الحَمدِ تَكذيبُ.

 

هنا أتحدث عن تجربة عشتها بقدر، ولا أقول بالصدفة، لأنني لا أأمن بالصدف، ولا أعتقد أن للصدفة وجود، لأن وجودنا كبشر جاء أصلاً بقدر ولم يأتِ من باب الصدفة، ولذا فإنني أعتقد جازماً أن كل حدث، صغيراً كان أو عظيماً، ليس سوى ترتيب إلاهي مُحكم ومقدّر.

أتحدث هنا عن تجربة من تجارب شخصية كثيرة، سوف يتم عرضها بمشيئة الله تعالى في كتابي الذي لم يصدر بعد.

 

لقد بدأت تجربتي الخاصة مع الدكتور عبدالعزيز طوهري، قبل ثلاث سنوات ونيف، عندما كنت أعمل بمركز صحي مجعر، فني وبائيات، وزارنا المركز بصفته منسقاً ومشرفاً لبرنامج الفحص الاستكشافي لسرطان القولون. 

كان هذا أول لقاء التقيت فيه بهذا الإنسان البسيط المتواضع، ولسبب أجهله أحببتُ ملامحه، شعرتُ فيه بالطيبة، أحسستُ في وجهه بهدوء وسكينة مدهشة لا تليق بطبيب!.

 كنتُ أتوقع أن يظهر عليه شيء من جنون العبقرية وأنفَة الكبرياء، لاسيما كونه طبيباً استشارياً، ومشرفاً في إدارة شؤون المراكز الصحيه بالقطاع الجنوبي، ومهيئاً لأن يكون المشرف الفني للقطاع. 

وحقيقة الأمر أن ذلك اللقاء جرى في دقائق، وانتهى بانتهاء شرحه للبرنامج وماهو دورنا في المركز الصحي في هذا البرنامج.

كان هذا اللقاء في خضم جائحة كورونا، في عام ٢٠٢٠م.

مضت الأيام، وتم تكليفي في برنامج تحصين المسنين ضد كورونا كمنسقاً للبرنامج في إدارة شؤون المراكز الصحية بالقطاع الجنوبي، وهنا كان الدكتور عبدالعزيز طوهري، هو رئيسي المباشر!!.

 

ومع العمل معه مباشرة، واقترابي منه أكثر، والتصاقي به، لاسيما في فترة تكليفه بتسيير أعمال القطاع الجنوبي، أثناء تمتع مدير القطاع الأستاذ يحيى مدخلي، بإجازة، اكتشفت فيه تمكنه، وصبره، ودأبه، وعدم تعجله، وعكوفه على مهامه، بكل عزيمة واقتدار، ورفضه للصخب وعزوفه عن مجالس النفاق، وقدرته على تحمل سماجة الناس، وغثاثة الفوضويون منهم خاصة.

إن شخصيته المتواضعة وغير التصادمية، وسعة صدره، كانت من أبرز الصفات التي أكبرتها وقدرتها، وربما هي اللبنة الأولى التي كانت ولا تزال الأساس الذي تتمحور حوله شخصيته.

ورغم ضحالة تجربته الإدارية، وحداثة سنة القيادية، إلا أنه كان يخفي في جعبته أفكاراً، ويحمل قيماً، ولديه رؤية واضحة للوضع الراهن، وتصوراً أكثر وضوحاً لمستقبل إدارة شؤون المراكز الصحيه بالقطاع الجنوبي.

لقد تعلمت من الدكتور عبدالعزيز طوهري، رغم أنني أكبر منه سناً، أن الإبداع لا يكون إبداعاً إلا إذا أتى بجديد، ولا جديد سيأتي ما دمنا نسير في نفس الشوارع الفكرية، والأزقة النفسية الضيقة، يجب أن يتحرر المرء كي يقدر على رؤية الصورة بشكل أوضح،، ذلك أن التصاق المرء بالمرآة لا يضمن له أبداً رؤية جيدة، بل قد تكون خاطئة ومضللة، وعليه فالمبدع يحتاج إلى أن يبتعد قليلاً أو كثيراً كي تتسنى له رؤية أكبر للتجربة، ومعايشة أعمق للأمر.

ومع مرور الأيام، تم تكليف الدكتور عبدالعزيز طوهري، مديراً لشؤون المراكز الصحية بالقطاع الجنوبي، فكانت تلك الفترة بالنسبة لي من أكثر التجارب تحدياً في حياتي العملية.

فكوني مشرفاً للتوعية الصحية والتطوع الصحي والعلاقات العامة والإعلام بالإضافة إلى حملات التحصين الميدانية ضد الإنفلونزا الموسمية، وكون رئيسي شاباً لا يكل ولا يمل، وأنا في الخمسينات من عمري، فكان لابد أن أبذل أقصى ما أستطيع ليس لإرضاء رئيسي فقط، وإنما لأرضي ضميري، وأواكب النقلة النوعية التي يمر بها القطاع الجنوبي.

وهنا حقيقة لابد من أن أشير لأمر، أرى أنه من أهم أمور القيادة التي لن تجده إلا في الكتب!.

ألا وهو "التمكين" !!.

ومن من القادة أو المدراء لم يقرأ عن التمكين في الإدارة؟!؟

ولكن أن تقرأ ليس كما ترى وتطبّق.

ومع أنني كنت أعمل ضمن فريق عمل متكامل، يضم أكثر من ٣٠ موظفاً وموظفة داخل القطاع، وحوالي أكثر من ٧٠٠ موظف وموظفة في مراكز القطاع، بقيادة الدكتور عبدالعزيز طوهري، والمشرف الفني الدكتور حسين إسماعيل، رحمه الله.

ومن الطبيعي جداً أن تظهر في مثل هذه الأجواء اختلافات في وجهات النظر، وحتى خلافات في بيئة العمل، إلا أن ذلك الشيء لم يكن يذكر، وعلى ذلك كانت روحة الوئام، وملامح السلام، تعم الأجواء، وكان التناغم والتنسيق، يسود الأرجاء، وماهذا إلا لسبب بسيط وهو أن الدكتور عبدالعزيز طوهري كان يعي ماهو التمكين، ولم يكن ليحشر نفسه ولا ليلقي بثقله في سفاسف الأمور، وقشور الفضول من الأقوال والأفعال، ولا يتدخل إلا في أضيق الحدود حين يكون التدخل هو المخرج الوحيد.

كان في كل صباح تقريباً يلتقي بجميع المشرفين ورؤساء الأقسام، لا ليوبخهم على قصور حدث، ولا ليشكرهم على إنجاز حصل، وإنما ليستعرض معهم جداول الأعمال والمهام، ويوضح لهم أنه معهم وبهم وفي خدمتهم في أي أمر.

ولم يكن يعاتب مشرفاً على أمر فعله، لم فعله، ولا على أمر لم يفعله، لِمَ لَمْ يفعله.

ولا أذكر أنني حضرت اجتماعاً مطولاً قط للدكتور عبدالعزيز، وفريق عمله، لأنه يؤمن أن الاجتماعات المطولة ليست سوى مضيعة للوقت والجهد.

 

قبل شهور أعفي الدكتور عبدالعزيز طوهري، من إدارة القطاع الجنوبي بصحة جازان، وبعدها بأيام توفي المشرف الفني بالقطاع الدكتور حسين إسماعيل، رحمه الله.

فعاد الدكتور عبدالعزيز، إلى المكتب الفني، الذي هو بيته الفعلي حتى إبان فترة تكليفه مديراً للقطاع، ومع ذلك ظلت شخصيته كما كانت منذ أن كان منسقاً لبعض البرامج الصحية.

وتظل تجربتي الشخصية مع الدكتور عبدالعزيز طوهري، ذهاباً وإياباً من أروع التجارب وأكثرها تأثيراً في حياتي العملية، لما اكتسبته من خلالها، وما تعلمته منها، وكما قال الشاعر العبّاسي، أبو الفرَج المخزومي:

أَفادَت بِكَ الأَيّامُ فَرطَ تَجارِبٍ

كَأَنَّكَ في فَرقِ الزَمانِ مَشيبُ

وُكُلُّ بَعيدٍ قَرَّبَ الحَينَ نَحوُهُ

سَلاهِبُكَ الجُردُ الجِيادُ قَريبُ

 

وَما يُدرِكُ العَلياءَ إِلّا مُهَذَّبٌ

يُصابُ عَلى مِقدارِهِ وَيُصيبُ

فَلا تَصطَفِ الإِخوانَ قَبلَ اِختِبارِهم

فَما كُلُّ خِلٍّ تَصطَفيهِ نَجيبُ.