المقالات

النظرة القصيرة والزاوية الضيقة.. حين تختزل بعض العيون اتساع الحياة في شاشة

النظرة القصيرة والزاوية الضيقة.. حين تختزل بعض العيون اتساع الحياة في شاشة

 

✍🏼بقلم أحمد الخبراني

في زمنٍ تمددت فيه الشاشات حتى صارت جزءًا من يوم الناس وقراراتهم وطرائق تفكيرهم، بات كثيرون ممّن أدمنوا مواقع التواصل يرون العالم من زاوية ضيقة لا تتجاوز حدود الشاشة، وتتعامل مع الحياة بمنطق القصص القصيرة والمقاطع السريعة، وكأن الواقع نسخة مُقلَّصة من تلك المنصات.

لم تعد المشكلة في الاستخدام، بل في التحوّل… تحوّل النظرة من اتساع الأفق إلى ضيق الإطار، من التمهل إلى الاندفاع، ومن عمق الحياة إلى سطحية “الترند”. أصبح بعض الناس يتحدثون بنفس اللهجة الرقمية السريعة، يختصرون المشاعر في رموز، ويحكمون على الآخرين بمنطق الخوارزميات: “إعجاب”، “إلغاء”، “متابعة”، وكأن العلاقات الإنسانية ملفات يمكن حذفها أو استرجاعها بلمسة.

يمكنك اليوم أن تتعرّف على هذه الفئة من حديثها قبل تصرفاتها. حديثٌ مشحون بما يراه في هاتفه، لا بما يراه في الحياة؛ ونقاشاتٌ تنتهي بسرعة لأن مساحة التفكير أصبحت بحجم شاشة. حتى الذائقة تغيّرت… ذائقة تفضّل الحكم قبل الفهم، والنتيجة قبل الرحلة، والصدارة قبل التجربة.

في المقابل، الحياة ليست بهذه السرعة. الحياة تتطلب خطوات تُسمع أصواتها، وجلسات تُفهم معانيها، وطرقات تُسافر بالروح قبل الجسد. الحياة لا تُختصر في تعليق، ولا تُقاس بقوة الظهور، ولا تُفهم من زاوية واحدة مهما كانت لامعة. الحياة تحتاج إلى قلب يرى، وعقل يتأمل، وروح تعيش خارج الإطار المحدود.

المفارقة أن هذا الإدمان جعل البعض يعيش في عالم مزدحم بالأصدقاء لكنه وحيد، محاط بالأصوات لكنه بلا حوار، حاضرٌ في كل المنصات وغائب عن حياته الحقيقية. لم يستمتع باللحظة لأنه مشغول بتوثيقها، ولم يعش التجربة لأنه يفكر كيف تبدو للناس لا كيف يشعر بها هو.

إن إعادة النظر لا تحتاج إلى قرارات كبيرة؛ تحتاج فقط إلى أن يرفع الإنسان رأسه من الشاشة ليرى السماء، وأن يمشي خطوة بلا تصوير، وأن يجلس مع شخص لا يبحث في هاتفه كل دقيقة. تلك التفاصيل الصغيرة هي التي تُعيد بوصلة الروح إلى اتجاهها الصحيح.

وأخطر ما في النظرة القصيرة أنها تسحبنا من الحياة ونحن نظن أننا نقترب منها، وما أحوجنا اليوم إلى توسيع الزوايا… إلى العودة إلى الأماكن التي لا تحتاج إلى شحن، ولا إلى إنترنت، ولا إلى متابعين لتكون جميلة.

 

لعلنا نكتشف حينها أن الحياة أعرض بكثير من شاشة، وأعمق من مقطع، وأجمل من تعليق عابر.