المقالات

علو الهمة في طلب العلم

علو الهمة في طلب العلم

✍️ أخصائي نفسي أول/ سعود ساطي السويهري

 

عندما سمعتُ قصة بقي بن مخلد الأندلسي لأول مرة، انتابتني مشاعرٌ متناقضةٌ بين الفخر بهؤلاء الذين أوصلوا العلم لمشارق الأرض و مغاربها وبين الأسف على حالنا اليوم مع هذا الإرث العظيم الذي تركه لنا السابقون، و لمن لا يعلمون ما هي قصة بقى بن مخلد ، فهو شاب فقير من الأندلس في أقصى المغرب (أسبانيا و البرتغال حاليًا) قرر أن يتحصل على العلم و لكي يفعل ذلك -و نحن ما زلنا في بدايات القرن الثالث الهجري- كان لابد له من الذهاب إلى الشرق وصولًا إلى بغداد ليطلب علم الحديث من الإمام أحمد بن حنبل.

و كيف لهذا الفقير أن يجد مالًا يتزود به في هذه الرحلة الطويلة؟

تخيل أنه ذهب من الأندلس إلى بغداد على قدميه!!. نعم فعل ذلك في سنتين ، يعمل في كل مدينةٍ يقف فيها حتى يحصل على مؤونةٍ تكفيه إلى المدينة القادمة، وهكذا دواليك -مرورا بالمغرب و الجزائر و تونس و ليبيا و مصر و فلسطين و الأردن- إلى أن وصل إلى بغداد ليسأل عن الإمام أحمد بن حنبل فيجده في السجن !.

ثم بعد فترةٍ خرج الإمام أحمد من السجن، و لكنه مُنِع من التدريس فكان بقي بن مخلد -رحمه الله- يأتيه بلبس الشحاذين حتى يخدع الحرس و يسأله أن يعطيه ثم يتعلم منه الحديث و الحديثين و الثلاثة فقط ثم يعود في اليوم التالي بلبس شحاذ مرة أخرى، وهكذا إلى أن انتهت المحنة.

هذا بقي بن مخلد الذي قال عنه الذهبي : (ببقي بن مخلد و محمد بن وضاح أصبحت الأندلس دارَ حديثٍ)، وهكذا تعلم بن مخلد الحديث.

والقصص المشابهة كثيرةٌ فالصحابي الجليل جابر بن عبد الله سافر مسيرة شهرٍ ليتعلم حديثًا واحدًا.

و الإمام الكسائي قيل أنه بلغ الأربعين و لم يتحصل على علم حتى لحن–أخطأ في النحو– أمام بعض القوم فعيَّروه بذلك فانطلق يطلب العلم حتى صار الكسائىّ صاحبَ قراءةٍ من القراءات السبع و جليسَ الخليفة و قمةً يشار إليها على مدار الزمن في اللغة العربية و مدرسةً مستقلةً بذاتها تناهض مدرسة سيبويه.

ثم يأتي بعده بنحو الخمسمائة عام الإمام العز بن عبد السلام يطلب العلم أيضا في مثل هذا السن و يصير سلطان العلماء بمصر بعد أن كان مجرد عامل نظافة في المسجد الأموي بدمشق.

ولا عجب في ذلك فكما يقول ابن القيم ( إذا علا البيدق تفرزن ).

أى أن البيدق و هو العسكرىّ في الشطرنج إذا وصل إلى قمة الرقعة صار وزيرًا.

لا يهم أين أنت الآن، فهمتك العالية ستوصلك إلى المكان الذي تستحقه. 

فقط ابذل الجهد، ثابر واستمر ف ( القمة أساسها " قم " ) و ( لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ).

ولا تستمع إلى المحبطين الذين كانوا سيقولون لبقي بن مخلد أو الكسائيّ أو العز بن عبد السلام: "إلى أين تذهبون أفي سنكم و فقركم و حالكم هذا تطلبون العلم ؟! اسعوا إلى أكل العيش ودعوكم من هذه الأوهام".

فلو كان أحدهم استمع إلى هؤلاء لما ذكرناه اليوم بهذا الخير كله و لما كان هذا العلم الذي تركوه يضيف إلى حسناتهم يومًا بعد يومٍ إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .

فلا تستمع إلى هؤلاء و لكن ( أتعب قدماك فإن تعبا... قدّماك).

وخالط ذوي الهمم تعلُ همتُك، فالإمام البخاري لولا أنه سمع الإمام ابن راهويه يقول " لو جمعتم كتابا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، لما صار البخاري صاحب أعظم و أصح كتابٍ بعد القرآن الكريم لدى الأمة الإسلامية.

و الإمام أبو حنيفة لولا أن رآه الإمام الشعبي و حثه على طلب العلم لما صار فقيه العراق الذي قال عنه الشافعي" من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيالٌ على أبي حنيفة ".

و كما قيل" لا تصحب من لا ينهِضُك حالُه و لا يدلك على الله مقالُه ".

و ختامًا لا تنس ما رواه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال" إنما العلم بالتعلم و الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتقِ الشر يوقه ". قال يحيى بن أبي كثير: «لا يستطاع العلم براحة الجسد» فاطلب العلم تنله و اطلب الخير تنله، فالله وعد بذلك إن جاهدت نفسك و صبرت على الطلب فقال عز و جل:

" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ "

وكما قيل " لولا المشقة ساد الناس كلهم "و" لابد دون الشهد من إبر النحل".