
✍🏼 ملهي شراحيلي
كم من شخصٍ مرّ بك في حياتك الشخصية أو العملية أو في مسيرتك التعليمية تمنيت أن تكون مثله!!.
وكم شخص قلدته في كلامه أو مشيته، أو حتى في لباسه، وبعض حركاته.
وكم من شخص قابلته في حياتك فقلت في نفسك: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.
وهذا بإختصار هو التسويق الذاتي، أي أن كل شخص نقابله في حياتنا فإننا نأخذ عنه بوعي أو بدون وعي، انطباع عن شخصيته، وهذا الإنطباع يرسخ في ذاكرتنا ويظل ملازماً لصورة واسم ذلك الشخص.
والحقيقة أن هذا الإنطباع الذي ظل ملازماً لصورة ذلك الشخص، ليس وليد موقف وإنما لما تكرر من ذلك الشخص حتى أصبح مرادفاً لأسمه، وملازماً لشخصيته.
وفي أمثالنا العربية قولهم:
من أكثر من شيءٍ عُرف به.
وهذا المثل من مقولة خلّدها التاريخ لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذ يقول:
"من كثُر ضحكُه قلّت هيبته، ومن مزح استُخِفَّ به، ومن أكثر من شيء عُرِفَ به، ومن كثُر كلامه كثُر سقطه، ومن كثُر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه قل خيره".
وعلى هذا الأساس، فإن كل شخص منا يصنع له وصفاً في عقول الآخرين، من خلال سلوكه المتكرر، فيعرفونه بذلك الوصف.
ولذاك فإن الشخص الذي يُكثر المزاح، مثلاً، يقال عنه مزاحاً.
وهذا مايُعرف، في وقتنا الحاضر، بالتسويق الذاتي!!.
فما هو التسويق الذاتي؟ وما أهميته؟
وهل التسويق الذاتي نوع من أنواع التباهي؟!؟
يُعرّف التسويق الذاتي (أو التسويق الشخصي) هو: عملية تسويق الفرد نفسه كـ "علامة تجارية" لتعزيز سمعته المهنية وإظهار مهاراته وقدراته للوصول إلى أهدافه المهنية والشخصية.
يشمل هذا بناء هوية شخصية واضحة، وتطوير شبكة علاقات مهنية، واستخدام منصات التواصل الاجتماعي، وإبراز الأعمال والإنجازات، والمشاركة في الفعاليات المهنية لبناء صورة قوية ومتميزة في أذهان الآخرين.
إن ممارسة التسويق الذاتي، مهارة متجذرة في البشرية، ولا يوجد إنسان لم يستعمل التسويق الذاتي في حياته، ولكن القليل من البشر من يستخدمها بصورة صحيحة، بحيث تعطي انطباع قوي وايجابي لدى الآخرين.
فالبعض أما يستخدمها بطريقة خاطئة، أو لايحسن استخدامها إطلاقاً، لأنها في الحقيقة تحتاج إلى وعي وإدراك ، ليس بأهميتها فحسب، بل وبالوسائل والأدوات التي تعززها وتقويها.
فعلى سبيل المثال، فإن الموظف الذي لايستطيع أن يمارس التسويق الذاتي، بطريقة إيجابية، ليصنع له صورة الموظف المثالي في بيئة عمله، فإنه غالباً لا ينحرم من المكافآت والترقيات، بل أنه لايحصل على حقوقه كاملة!!!.
بينما الموظف الذي يستطيع التسويق الذاتي لنفسه بطريقة إيجابية فإنه لايحصل على كامل حقوقه فقط، بل أنه ينال المكافآت والترقيات على طبق من ذهب.
وهذا بالطبع لايعني أن تسويق الذات ليس سوى تباهي وتفاخر بالمنجزات، بل إن من أهم قواعد التسويق الذاتي، الواقعية والجدية والصدق في رسم الصورة الذهنية للشخص عند رؤسائه ومرؤسيه، لأنه وبكل بساطة، إذا كان التسويق الذاتي مبني على التفاخر وسرقة جهود الآخرين وإدعاء الجد والاجتهاد فإنه سرعان ماينكشف، ويصبح تسويقه لنفسه مجرد نوع من الخداع والكذب، وهذا بالتالي سوف ينعكس على أدائه وبالتالي على شخصيته.
إن التسويق الذاتي إذا لم يكن مبنياً على منهجية علمية، وقاعدة صلبة من الواقعية والمصداقية فإنه يدمر الشخصية، سواءً في بيئة العمل أو حتى في الحياة الشخصية والاجتماعية.
وإذا ما بحثنا عن التسويق الذاتي، ونشأته، فإن أول من سوّق لنفسه من المخلوقات، إبليس، وقد سوّق لنفسه مرتان، الأولى، حين قال: أنا خير منه، كما أخبرنا سبحانه وتعالى في قوله:
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
ولأن تسويقه لم يكن صحيحاً فقد جاءه الرد مباشرة من الحكيم العليم بطرده، كما في قوله تعالى:
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ.
والمرة الثانية عندما جاء إلى آدم قائلاً له إني لك من الناصحين ، كما أخبرنا بذلك الرحمن الرحيم في قوله تعالى:
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.
ومارس التسويق الذاتي، جميع الأنبياء بدون استثناء، فهاهو يوسف عليه السلام، يقول:
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
وفي "الصحيح" أن رسول اللَّه ﷺ قال:
"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر".
وثبت في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه ﷺ:
"بعثت من خير قرون بني آدم؛ قرنًا فقرنًا؛ حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه".
وفي "صحيح مسلم" من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول اللَّه ﷺ قال:
"إن اللَّه اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس:
بلغه ﷺ بعض ما يقول الناس؛ قال: فصعد المنبر، فقال: "من أنا؟ ". قالوا: أنت رسول اللَّه. قال:
"أنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتي فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتًا فجعلني في خيرهم بيتًا، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسًا".
صلوات اللَّه وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين.
وهذا ليس من باب التفاخر، وإن كان يحق له صلى الله عليه وسلم، أن يفاخر، ولكنه انطلاقاً من قوله تعالى:
وأما بنعمة ربك فحدث.
بعبارة أخرى، أن التسويق الذاتي يقتضي ذكر المحاسن، التي تتوافق مع الواقع.
وهاهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يمارس التسويق الذاتي، ويسوّق لنفسه قائلاً:
أَنا الَّذي سَمَتني أُمي حَيدَرَه
ضِرغامُ آجامٍ وَلَيثُ قَسوَرَه
عَبلُ الذِراعَينِ شَديدُ القِصَرَه
كَلَيثِ غاباتٍ كَريهِ المَنظَرَه
عَلى الأَعادي مِثلَ رِيحٍ صَرصَرَه
أَكيلُكُم بِالسَيفِ كَيلَ السَندَرَه
أَضرِبُكُم ضَرباً يَبينُ الفَقَرَه
وَأَترُكُ القِرنَ بِقاعِ جُزُرِهِ
أَضرِبُ بِالسَيفِ رِقابَ الكَفَرَه
ضَربَ غُلامٍ ماجِدٍ حَزوَرَه
مَن يَترُكِ الحَقَّ يَقوِّم صِغَرَه
أَقتُلُ مِنهُم سَبعَةً أَو عَشَرَة
فَكُلَّهُم أَهلُ فُسوقٍ فَجَرَه.
وقال الزبير بن العوام، رضي الله عنه:
أنا الزبير ولد العوام
ليث شجاع فارس الإسلام
قرم همام فارس هجام
أقتل كل فارس ضرغام
وإنني يوم الوغى صدام
وناصر في حانها الإسلام.
وقبلهم قال الشاعر المخضرم، سُحَيم بن وثيل الرياحي:
أَنا اِبنُ جَلا وَطَلاعِ الثَنايا
مَتى أَضَعِ العِمامَةَ تَعرِفوني.
ومما لاشك فيه أن التسويق الذاتي، أو التسويق الشخصي، لا يتأتى بالكلام فقط، بل إنه بالأفعال أكثر تأثيراً منه بالكلام، فكم من شخص صنع لنفسه صورة ساطعة في عقول الآخرين من خلال كتاباته، وآخر من خلال رسوماته، وذاك من خلال القصص والحكايات التي يسردها، وهذا من خلال النُكات والطرائف، وبعضهم عرفناه بالحكمة وآخر بالألغاز، وغيره بالشعر، وهلم جر.
ومهما اختلفت الطرق والأساليب في التسويق الذاتي فإن المحصلة النهائية واحدة وهي تسويق الفرد نفسه، لتعزيز سمعته المهنية وإظهار مهاراته وقدراته للوصول إلى أهدافه المهنية والشخصية، وبناء هوية شخصية واضحة ومستقلة.
يقول المتنبّي:
أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي
وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ
أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها
ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها وَيَختَصِمُ.
MelhiSharahili@gmail.com
(0) التعليقات
تسجيل الدخول
لا توجد تعليقات