منوعات

آن لك أن تروي القصة كاملة:

آن لك أن تروي القصة كاملة:

لم أكن أتجاوز التاسعة عشرة من عمري، حين غادرت المملكة لأبدأ رحلة الدراسة والتدريب في البحرية الملكية البريطانية... كان كل شيء يبدو ضخمًا: المطار، الغربة، اللغة، البرد… وحتى أحلامي.

أول درس في الصمت:

في أول أسبوع لي هناك، لم أفهم معظم ما يُقال، اللهجة كانت سريعة، والمصطلحات جديدة، والإشارات لا تكفي لفهم التعليمات، بالرغم من حصولي على درجة عالية تؤهلني للابتعاث، ولكنها لم تكن كافية لإخراجي من الورطة التي وضعت نفسي فيها، أتذكر جيدًا تلك الليلة حين ضيعت الطريق إلى المهجع، بقيت أدور في البرد نحو ساعة، أحمل خرائط صغيرة لا أفهم منها شيئًا… ولم أكن أجرؤ على السؤال.

تلك الليلة لم أنم، ليس بسبب البرد فقط، ولكن لأنني فهمت أنني الآن وحدي، تمامًا، ولأول مرة، أدركت أن الغربة لا تكون في المكان فقط، بل في الشعور.

تم تكليفي بمهام، لم أكن مستعدًا لها … لكني لم أقل " لا أعرف" بل سأحاول، كنت أعرف أن الخطأ مكلف … والخوف أكثر كلفة ... فانت تُمثّل وطنك في بلد غريب، وتحمل علمًا فوق كتفك، وصوت أهلك (وسوط الفشل) في ظهرك، مرت الشهور، وتعلمت كيف أن الانضباط ليس فقط في الوقت، بل في الفكر، والقول والعمل، والمكان أعلاه.

بين الماضي والحاضر:

اليوم، بعد أن تقاعدت من القطاع العام، وبعد أن أعدت تعريفي لنفسي كمدرب وقائد في مجال النقل الحضري والصيانة وإدارة المشاريع، أدركت أن تلك اللحظات كانت البذرة الأولى.

كنت شابًا يواجه المجهول… فأصبحت رجلًا يصنع القرار.

كنت غريبًا يتعلم الصمت… فأصبحت قائدًا يُعلّم غيره كيف ينطق بثقة.

وهنا تبدأ الحكاية…

في هذه المرحلة، لم أكن فقط أُنفّذ أوامر… بل أُكوّن رؤية، وأبني فلسفة قيادية تقول:

"القائد الحقيقي هو من يتقدّم صفوف فريقه وقت العمل، ويقاسمهم العرق قبل أن يتقاسم معهم الإنجاز.".. وهنا، بدأت رحلتي الختامية في الإشراف والتوجيه والتطوير، لم أكن فقط أريد أن أُنجز، بل أن أُعلّم، وأُلهِم، وأترك أثرًا.

أن القوة ليست في العضلات، بل في القدرة على التحمل، وأن القيادة تبدأ من الخدمة، لا من المنصب، وان الإدارة ليس تنمراً، بل مسؤولية تُرى من بعيد، وتُحاسب من قريب. 

ومن البحر، حملت قلبي إلى اليابسة، إلى تحدٍ جديد… اسمه: يبقى مجهولاً، ولكن مجاله من المؤكد في خدمة الناس.!

بقلم/ علي بن عبدالله المالكي