منوعات

القرفة

القرفة

✍🏼محمد الرياني

فتىً ذو ملامح أسيوية شرقية ، مهتمٌّ بأن يكون شَعري الأسودُ غزيرًا يُغطي رأسي على شكلِ هرم ، لي أخٌ يصغرني ، يتحرك في كل مكان ، يداه لا تتوقفان عن الحركة ، رمى بحجرٍ حاد ، انطلقَ من يدِه تاركًا كلَّ شيءٍ واستقرَّ بين خصلاتِ شعري الأنيق الذي سرحتُه للتوِّ وبقيتُ أنظر إليه في المرآة ، شعرتُ بألمٍ شديد ، وضعتُ يدي مكانَ الألمِ بين أذني اليسرى وما يعلوها ، نظرتُ في يدي ، صحتُ مرتاعًا ! شعري ..شعري ، الدم ..الدم ، المستشفى ..المستشفى ، في المستشفى كانت الممرضةُ ذات الملامحِ الآسيويةِ تنظر إليَّ بنظراتٍ فاحصةٍ بعد أن أوعزَ إليها الطبيبُ بعملِ الخياطة ، تبدو ملامحُها مثلي ، نتشابهُ في مساحةِ العينين والحواجبِ الغزيرةِ وإن اختلفتِ اللغةُ بيننا ، تمَّ وضعُ الغرز ، قالت لي بلغةٍ أعجميةٍ على طريقتِها : راجِعنا بعد أسبوع ، عدتُ واتجهتُ إلى المرآةِ أسرِّحُ رأسي من جديدٍ والألمُ يسكنُ فوق أذني ، مثُلتْ أمامَ عيني ملامح القرفة التي تضعها أمي بين محتوى قهوةِ أبي ، أحببتُها شكلًا وطعمًا ، جمالُ الحياةِ في نظرِ فتىً في الثامنة عشرة شيءٌ لا يوصف ، اعتدتُ بعد ذلك أن أدخلَ المطبخَ مع أمي وأسبقها إلى علبِ التوابلِ كي أقتاتَ على قطع القرفة وأستروحَها ، أبي يغضبُ كثيرًا إذا لم يكن بين قهوته منها ؛ بل يشتدُّ غضبه ، بقيتُ أترددُ على علبها وفي عينيَّ تلك الملامحِ ، وذات صباحٍ جلسَ أبي في الظلِّ ينتظرُ القهوةَ كعادته ، جاءتْه القهوةِ مختلفة ، كنتُ ملتحفًا بلحافِ النومِ ولستُ نائمًا ، ناولتْه أمي القهوة ، وضعَ الفنجانَ على الطاولةِ الخشبيةِ الصغيرةِ بعنفٍ بمجرد أن رشفَ أوَّلَ رشفة ، قالت له وهي تعرف السبب : عليك بفلان فهو الذي يتردَّدُ على التهامِ قطع القرفة في المطبخِ حتى نفدت ، سمعتُه يقول إنه مغرمٌ بالتي خاطتْ له الشجَّ الذي في رأسه ، اشتاطَ غضبًا وسحبَ اللِّحافَ من على جسدي وقال : هل صحيح يا ...وناداني باسمي ، اسمع : يوجد في الحيِّ كثير من قطع القرفة من العائلة ، نهضتُ محتجًّا وهربتُ من المكان وتركتُه يعود ليشربَ القهوةَ بلا نكهة ، جاء الليلُ وأخذني معه كي يخطبَ لي بنتًا يشبهُ لونُها وملامحُها تلك الملامح ، لم أعترض ليقيني بأن صرامةَ أبي تعلو أيَّ شيءٍ وفوقَ الحُبِّ ، مضت الأيامُ وجاءت ابنةُ الحيِّ التي أضحتْ فيما بعد رفيقةَ دربي وسكنتْ معي ، دخلتْ يومًا المطبخَ ودخلتُ وراءها أتفقدُ احتياجاتها ، قالت لي وهي تنظر إليَّ بملامحِها الرائعةِ التي تشبه ملامحي : كلُّ شيءٍ على مايرام باستثناء القرفة ، إذا كنتَ تحبني لا تذكر سيرتَها عندي ، تذكرتُ الجرحَ القديم ، وضعتُ يدي مكانَ الجرح ، اقتربتْ مني لترى مكانَ الخياطة ، قالت لي : سلامات ..ألف ألف سلامة ، لايوجد أثرٌ لجرح ، وضعتُ يدي لأقيسَ صورةَ الماضي وهي تتفحصُ ملامحي .