
✍🏼هالة الغامدي
لم يكن المطر في ذلك المساء العابر مجرد زخّات ماء تتهادى على الأرصفة، بل كان نداءً خفيًا للذكريات، يعيدني إليكِ، إلى تلك الأيام التي كانت قلوبنا فيها تتقاسم الفرح والحزن بنفس القدر، وكأننا روح واحدة في جسدين.
كنّا هناك، تمامًا عند ذلك المكان المطلّ على البحر، حيث كنّا نجلس في السيارة، وقطرات المطر ترسم خيوطًا من الأمل والحنين على زجاجها، كأنها دموع السماء تشاركنا أحاديثنا التي لا تنتهي. كنا نحكي ونضحك، ونرتشف رشفات صغيرة من “البيبسي دايت” ونقضم قطع “الكتكات” كأنها كُتُب مقدّسة تحفظ أسرارنا. كنا نتبادل القصص، نروي تفاصيل مغامراتنا المجنونة، نتحدث عن الحب، عن الخذلان، عن الأمل، وحتى عن أولئك الذين آلمونا.. كنا “نحش” في من عادانا بلا تردد، بلا خوف، فقط ثقة بأن هذه الأسرار لن تخرج من صدورنا أبدًا.
كنّا ننتظر هذا الوقت طوال العام، نحسب الأيام كما يحسب العاشق موعد لقاء حبيبه، نُخطط، نرسم التفاصيل في مخيلتنا، ونجهّز المبررات التي سنخبر بها أعمالنا والتزاماتنا حتى نسرق لأنفسنا ساعات قليلة، نعود فيها طفلتين هاربتين من ثقل المسؤوليات، لنحتفل بالمطر والشتاء كأنهما عيدنا الخاص. كنا نؤمن أن الشتاء بدون بعضنا بارد حتى لو تساقطت منه أجمل الثلوج، وكنا نؤمن أن لقاءنا تحت زخّاته هو وعد كتبناه بقلوبنا، وعد لا يجب أن يُخلف أبدًا.
ولكن حين جاء الشتاء هذا العام.. لم نلتقِ. جاء موعدنا الذي انتظرناه طويلًا، لكنه مرّ كالغريب، مرّ دون أن نتذكر حتى كيف كنا نخطط له، وكأن الزمن قد محا الخرائط التي كانت تقود قلوبنا نحو بعضها البعض. مرّ الموعد، وبقي المطر وحده ينتظرنا، لكننا لم نعد هناك.. لم نعد نعرف الطريق لبعضنا. كأن ذاكرتنا أصابها الصدأ، فلم تعد تذكر كيف كنا، ولم نعد نحن ذواتنا الذين كنا ننتظر اللقاء بشوق الأطفال.
كنتِ أكثر من صديقة، كنتِ الشطر الآخر مني، المكمّل لكل نقص، الملجأ لكل وجع، والفرح الذي يختبئ خلف ستائر الأيام الرمادية.
وكما كنتِ لي، كنتُ لكِ. كنتُ المأمن الذي تهربين إليه حين يخذلك العالم، والصندوق الذي خبأتِ فيه أسراركِ دون خوف، لأنكِ كنتِ تعرفين أني لن أخذلكِ يومًا، أني سأكون الجدار الذي يحفظكِ من الرياح العاتية، والكتف الذي يُسند قلبكِ حين يميل. كنتِ تخبرينني كل شيء، حتى أدق التفاصيل التي لم تكن تعني أحدًا سواي وسواكِ، وكنتُ أستمع إليكِ بحب، كما لو أن كلماتكِ آيات مقدّسة لا يمكن أن تُنسى.
لكنّ العالم كان قاسيًا.. لم يكن كريمًا بما يكفي ليُبقيكِ قربي. جاءت الرياح بما لا تشتهي قلوبنا، ووجدنا أنفسنا وسط معركة لم نختر خوضها، حيث تمكن البعض من زرع المسافات بيننا، من قسمة أيامنا إلى نصفين متوازيين لا يلتقيان، حتى أصبحتِ هناك، وأنا هنا. ليس بيننا إلا الصمت الطويل الذي لا يبوح بشيء سوى الحنين.
اليوم، لكلٍّ منا صديقة أخرى، لكني لا أعلم.. هل هي بقدر الثقة التي كنتِها لي؟ هل ستتحمل جنوني كما كنتِ تفعلين؟ هل ستفهم صمتي كما كنتِ تفعلين؟ هل ستسمع كلماتي حتى تلك التي لم أنطق بها؟ لا أعلم.. ولم أعد أملك الصبر لأكتشف، فلم أعد قادرة على البحث عن نسخة أخرى منكِ في وجوه الآخرين.
ولكن أخبريني أنتِ.. هل وجدتِ صديقة تشبهني؟
هل وجدتِ من تحبكِ كما كنتُ أحبكِ؟ هل شعرتِ معها بالأمان كما كنتِ تشعرين معي؟ هل تسارعين إليها حين تفرحين، كما كنتِ تفعلين معي؟ هل تستمع إليكِ بذات الإنصات، وتلتقط حزنكِ حتى قبل أن تنطقي به؟ أم أنكِ ما زلتِ تبحثين عني في ملامحها، في كلماتها، في ضحكاتها، ولكنكِ لا تجدينني؟
المطر يهطل الآن كما كان يهطل حين كنّا نجلس معًا.. لكن الفرق أنني وحدي هذه المرة. أودّعكِ دون صوت، ودون رسائل، فقط بنظرة أخيرة ألقيها على أمواج البحر التي تشهد على صداقتنا. كان من المفترض أن نظلّ معًا، لكن البعض كان أقوى منّا.. والآن، كل ما تبقى لي منكِ هو الحنين.
وداعًا صديقتي، حينما يُمطر الحنين.. سأتذكركِ دائمًا.
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات