المقالات

على هامش الاحتفالات الروسية بيوم النصر.... "المعركة العالمية والأسلحة الأكثر أهمية"

على هامش الاحتفالات الروسية بيوم النصر.... "المعركة العالمية والأسلحة الأكثر أهمية"

✍️ ملهي شراحيلي

تحتفل روسيا ومعها بعض جمهوريات الإتحاد السوفييتي سابقاً، بيوم النصر، في التاسع من مايو من كل عام.

وقد جرت أمس الخميس، مراسم الإحتفال بهذه المناسبة في عدد من العواصم السوفييتية سابقاً، ولكن موسكو، كانت أكثرهن حضوراً إعلامياً وجماهيرياً وحتى عسكرياً، ولم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليفوّت هذه المناسبة، دون أن يوظفها لصالح حربه المقدسة كما يسميها، ليس ضد أوكرانيا فقط، بل وضد خصمه اللدود، وعدوّه الكؤود، النخب الغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. 

وقد ألقى خطاب النصر واستمتع بالاستعراضات العسكرية، مع ثُلة من كبار القادة العسكريين، ومجموعة من المقاتلين القدماء، وبحضور بعض الممثلين الدبلوماسيين والزعماء. 

وإن كانت هذه الطقوس تُجرى عادةً في مثل هذه المناسبة، وليس من جديد يُذكر سوى إعتراف بوتين، (الضمني) في خطابه، بصعوبة المرحلة، قائلاً:

"روسيا تمر حالياً بمرحلة صعبة ومفصلية، ومصير بلادنا ومستقبلها يتوقف علينا جميعاً."

وإشارته التأكيدية والمكررة حقيقةً، عن جهوزية القوات الاستراتيجية الروسية، وأنها في حالة تأهب دائم، مؤكداً في ذات الوقت أن روسيا ستبذل كل الجهود لمنع حدوث مواجهة عالمية.!!.

وهنا لابد من الوقوف أمام أمرين، أرى أنهما في غاية الأهمية.

الأول: ماهي الصعوبة التي لمّح إليها بوتين، في خطابه؟

مانوعها؟

وما حجمها؟

وما مدى تمكّنها؟

وهل هي تخص العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أم أنها تواجه روسيا بصفة عامة؟

وإذا كانت عامة، فهل هي عسكرية أم اقتصادية أم اجتماعية أم أنها سياسية؟

إنني كمتابع سياسي للأحداث العالمية، ومطّلع بطبيعة عملي كصحفي، على أهم القضايا على الساحة الدولية، وبخاصة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما ترتب عليها من أمور، وما نتج عنها من تداعيات، أقرأ في هذا التصريح، أن بوتين، يحاول أن يبعث رسالة للغرب بأن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أوشكت على الإنتهاء، ولكن ولأن بوتين، من القادة العالميين الموصوفين بالذكاء، والمشهورين بالدهاء، فهو يحاول أن يُظهر للغرب أن روسيا في مأزق!!، وأنها تمر بمرحلة صعبة، وهو بالطبع يقصد عكس ذلك تماماً، لكي لايثير حفيظة الغرب، ولكي يُنهي العملية بهدوء بعيداً عن التبجّح بالنصر، لاسيما في عيد النصر.

وحقيقة الأمر أن الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، معروف عنه الهدوء، والروية، وليس من المولعين بالانتصارات الإعلامية، سواءً كانت حقيقية أو وهمية. لقد اقتطع القرم بكل صمت، والتهم جورجيا بكل هدوء، وهاهو يستولي على الأقاليم الأوكرانية، إقليماً تلو الآخر، ومع ذلك يقول أن روسيا تمر بمرحلة صعبة ومفصلية!!.

 

 

القضية الثانية التي تستدعي التوقف عندها، قوله بالنص المترجم من الروسية إلى العربية:

"روسيا ستبذل كل الجهود لمنع حدوث مواجهة عالمية."

وهذه العبارة تؤكد ما استنتجتُه في الوقفة الأولى، من أن روسيا على وشك إنهاء عمليتها العسكرية في أوكرانيا، وتُثبت أن عبارته الأولى ليست سوى عكس ما قاله تماماً!!.

فإذا أخذنا كلامه في العبارة الأولى بتفسيرها الظاهر، أن روسيا تمر بمرحلة صعبة ومفصلية، وفسّرناها(على أن روسيا في مأزق،) فكيف لها أن تمنع حدوث مواجهة عالمية وهي في مأزق!!؟

ثم ما أسباب المواجهة العالمية، إن لم يكن غير ابتلاعها أوكرانيا!!؟

وإلا لماذا سوف تتعرض لمواجهة عالمية!؟

إن المتابع لمقابلات بوتين، التلفزيونية، وخطاباته، وحتى مؤتمراته الصحفية الإرتجالية، يعلم علم اليقين، أنه من القادة العسكريين المتمكنين، وهو يعلم ماذا يقول، ومتى يقوله، وأين يقوله.

لقد حرص بوتين، كل الحرص، على أن يكون ظهوره الإعلامي، هيئةً ومكاناً وزماناً أقوى تأثيراً من الكلام الذي يقوله، وهو بلاشك يمتلك خبراء في إظهاره بصورة صُمّمتْ له بدقة وعناية، ليس صورة شخصية، وإنما صورة بصرية تُحاكي لغة الجسد، وتراعي المؤثرات المحيطة، لكي تُقنع المشاهد بفحوى رسالته قبل أن يقولها، وخطاباته قبل أن يدلي بها.

 

ولذلك فلا غرابة في أن يستخدم كلمات وعبارات، تحتمل أكثر من معنى، وقد يكون لها أكثر من تفسير، لاسيما لدى المعنيين بتلك الخطابات والرسائل، سواءً من أقرب المقربين إليه، أو ألد أعدائه وخصومه السياسيين.

وعوداً على بدء، فيما يخص إحتفالات روسيا بيوم النصر، وما رافقه من مظاهر عسكرية واجتماعية، وما جرى فيه من خُطب مطولة، وتهديدات وتلميحات، من قادة عسكريين، ومسؤلين سياسيين، وحتى من مضامين احتواها خطاب بوتين، بشأن الاستعدادات العسكرية الروسية، وتحذير للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، كما قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف:

"روسيا تحذر الولايات المتحدة والغرب من أن التصعيد سيضطر موسكو إلى اتخاذ خطوات لتعزيز إجراءات ردعها النووي. 

وقوله: أن روسيا لم تغير عقيدتها النووية حتى الآن ولكن الموقف الدولي نفسه يتغير.

وما صرح به الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بقوله:

 إن العالم أصبح أقرب من أي وقت مضى إلى كارثة نووية ولكن بالنسبة لمينسك وموسكو فإن السلاح النووي التكتيكي هو سلاح ردع.

مشيداً، بعرض يوم النصر في موسكو.

مضيفاً : أن روسيا أظهرت قوتها وكل شيء تم تنفيذه بعناية شديدة.

وإن كانت جملة هذه التصاريح، ليست سوى قراءات تفسيرية لخطاب بوتين، إلا أنها أيضاً تشير بما لايدع مجالاً للشك، أن روسيا قاب قوسين أو أدنى، من تحقيق أهدافها، وإعلان إنتصارها، ليس في حربها ضد أوكرانيا، بل في معركتها العظمى ضد الغرب.

هذه المعركة التي بدأت منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، ولا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، وربما تستمر لسنوات قادمة إن لم يكن عقوداً.

لقد كانت روسيا من أوائل الدول التي تصدت للجيش النازي، وهي اللبنة الأولى التي تشكلت عليها عصبة الأمم المتحدة، ومن الدول الأولى التي شهدت ولادة النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ الغرب يقصيها عن الساحة الدولية، ويهمشّها في القضايا العالمية، بل ويتجاهل وجودها، ويحاصر حدودها. 

لقد نجح الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في سحب البساط العالمي من تحت أقدام السوفييت، وتفكيك حلف وارسو، ثم الإجهاز على الإمبراطورية الروسية المسمّاه بالاتحاد السوفييتي، فتفكك ذلك الإتحاد، وتشرذمت تلك الإمبراطورية، فسقطت روسيا، ولكنها بقيت كجمرة تحت الرماد. 

حتى جاء فلاديمير بوتين، على حين غفلة من الغرب، وبعقلية غربية، ولكن بروح روسية، وقد تعلّم من آبائه وأجداده الذين كان لهم الفضل في القضاء على النازية، وكأن لسان حاله يقول:

اِنعَم وَلَذَّ فَلِلأُمورِ أَواخِرٌ

أَبَداً إِذا كانَت لَهُنَّ أَوائِلُ.

فخطى خطاهم، وسار على نهجهم، مستعيناً بالتكتيك الغربي، الذي تم تصميمه للنيل من روسيا، وبذات المنهجية الفكرية الغربية، التي قطّعت أوصال الإتحاد السوفييتي.

لقد أدرك بوتين، قبل وصوله لسدة الحكم، في الكرملين، أن السلاح الذي استخدمه الغرب لتفتيت روسيا، لم يكن سلاحاً نووياً، ولا جرثومياً، وإنما كانت التحالفات، والاقتصاد، هما الأداتان التي استعملهما الغرب في معركته ضد الإمبراطورية الروسية!!.

لذلك فقد شرع بوتين، فور وصوله للكرملين، في استخدام تلك الأداتين، فتمكن من إغراق أوروبا بالغاز الرخيص والنفط النفيس، حتى أصبح فطم أوروبا عن الطاقة القادمة من روسيا شبه مستحيل، وأبرم اتفاقيات مع الصين التي كانت أيضاً من المؤسسين للنظام العالمي الجديد، ولكنها تعرضت للتهميش تارةً، وتارةً للتقييد من قبل الغرب.

ونظراً لأن الغرب بالغ كثيراً في استخدام الاقتصاد، ليس فقط ضد روسيا والصين، بل وحتى ضد حلفائه المقربين، الذين وجدوا في تنويع اقتصاداتهم ما يغيض الغرب، الذي استخدم ضدهم كل الأساليب والحيل وليس أولها تغيير المناخ، ولن يكون آخرها حقوق الإنسان.

وفي ظل هذه العنجهية الغربية، وجد بوتين، فرصته سانحة، لاسيما بعد أن عانا العالم وضاق ذرعاً بالغطرسة الغربية، فشرع في تشكيل تحالفات وإن كانت ظاهرها اقتصادية، إلا أنها باطناً لاتخلوا من السياسية وحتى العسكرية.

إن المعركة العالمية الروسية مع الغرب، ومعركة بوتين، الشخصية، ضد الولايات المتحدة الأمريكية، لن يكون للأسلحة النووية فيها كلمة الفصل، إلا إذا ما بدأ الغرب باستخدامها، وقد يفعلها الغرب في أي لحظه، كما تم سحق اليابان بها في الحرب العالمية الثانية، مع أن الحرب كانت على وشك الإنتهاء، ولم يكن تحتاج أمريكا سوى لتنفيذ تجربة نووية، وإيقاف التقدم الاقتصادية لليابان. 

إن الأسلحة الروسية الأشد فتكاً بالغرب، في المعركة العالمية، هي الاقتصاد، ثم التحالفات، سواءً من خلالة منظمة أوبك، أو منظمة البريكس، أو غيرها من التحالفات.

هذه هي المعركة الحقيقة التي أراها من وجهة نظري الشخصية، أنها هي التي سوف تجعل العالم بأسره، يمر بمرحلة صعبة ومفصلية، وليست روسيا فقط.

فالغرب لن يسمح لا لروسيا ولا للصين ولا لأي تحالف دولي، أن يحقق الانتصار فيها، ولو اضطر الغرب لاستخدام الأسلحة النووية.

 

إن التهديدات الروسية باستخدام الأسلحة النووية، حتى وإن كان تحت ذريعة الدفاع عن النفس، ليس سوى حرب إعلامية، لاسيما فيما يخص عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ولكنها لن تترد في استخدامها في حربها العالمية، ليس للسيطرة على العالم، كما تفعل حالياً الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما لخلق عالم جديد متعدد الأقطاب.

من هنا فإن القضية التي يحملها بوتين، قضية عالمية، ومن وجهة نظري الشخصية، أن العالم حالياً بأمس الحاجة إلى إعادة تشكيل نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، لا تكون السيطرة فيه لدولة أو مجموعة دول على باقي دول العالم.

إن التقارب الصيني الروسي من جهة، والتقارب الروسي الصيني، مع الدول العربية، وبخاصة المملكة العربية السعودية، بما لها من مكانة اقتصادية وسياسية واجتماعية لدى شعوب العالم قاطبة، يخفف من عبء الحمل على روسيا، ويسهم في إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، بوتيرة أسرع.

إن انتصار روسيا في معركتها العالمية، بدعم الصين والدول العربية، لايعني بالضرورة تدمير الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، بل يعني وبكل بساطة، أن تعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى حجمها الطبيعي، كدولة من دول العالم، مع الإعتراف لها بأنها قادت العالم طوال الثمانين عاماً الماضية، وقدمت للبشرية اسهامات اقتصادية واجتماعية حسّنت من حياة الشعوب، ورفعت مستوى الحياة الإنسانية إلى درجات عالية من الرفاهية.

وآن الأوان لها أن تسمح ولو بالقوة الاقتصادية، والتحالفات الدولية، لدول العالم، أن تقدم ما لديها للبشرية.

فهل تحتفل روسيا في عامها القادم بانتصارها في هذه المعركة العالمية، أم يباغتها الغرب، بالأسلحة النووية، بعد أن عجز عن ردعها بالتحالفات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية؟!؟

وبالمقابل هل يستطيع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، من وءد روسيا في أوكرانيا، قبل دخولها في مواجهة عسكرية عالمية لخلق نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب؟!؟

أنا شخصياً لدي قناعة شخصية، أن بوتين، سوف ينتصر في المعركة العالمية، ليس فقط لأن الصين والدول العربية تؤيد مشروعه العالمي، ولكن لأنه وكما قال الشاعر:

لَهُ نَفسُ حُرٍّ عِندَهَا قَد تَهَيَّبَتْ

قَوَامِيسُ أَمثَالِ الأُلَى مَا تَطُوفُهَا 

وَلَو جَازَ لِلأَقيَاسِ تَمثِيلُهَا فَلَن

تَرَى بَينَ أَعلَامِ النُّهَى قَد يَنُوفُهَا

وَلَازَالَ يَروِي شَامِخًا فِي تَفَرُّدٍ

مَعَانٍ بِحِبْرِ العِزِّ مَبنَى حُرُوفُهَا.

 

MelhiSharahili@gmail.com