
تقرير من إعداد ملهي شراحيلي
في مثل هذا اليوم، قبل أربعة عشر عاماً كانت منطقة جازان، وتحديداً محافظة الحُرّث، على موعد مع حدثٍ، لم تشهد له مثيلاً في تاريخها الحديث!!.
هذا الحدث العظيم الذي غيّر وجه المحافظة، وقلب حياة أهلها رأساً على عقب.
فبعد الإعتداء الغادر الذي قامت به جماعة الحوثي الإرهابية على بعض النقاط الأمنية لحرس الحدود، وترويع الآمنين في القرى الحدودية، جاءت الأوامر الملكية بسرعة إجلاء المواطنين القاطنين على الشريط الحدوي، حفاظاً على سلامتهم، وتمهيداً لإعطاء الجهات الأمنية حرية الحركة لكي تقوم بدورها.
في مثل هذا اليوم، بدأ السكان بالخروج من منازلهم، آخذين معهم ماخفّ وزنه وغلا ثمنه، غير أن أغلى مالديهم، وأثمن ماعندهم، لم يتمكنوا من حمله!!!
ألا وهو أرضهم.
وكانت آمالهم ولا تزال معلقة في عودتهم لديارهم سالمين غانمين، ولو بعد حين.
رغم مضي اربعة عشر عاماً على هذا الحدث الأليم، ورغم فقد الأمل في العودة، لايزال أبناء وبنات الحُرّث، يستذكرون أطلاهم، وينسجون من خيوط الأمل أحلاماهم وآمالهم، وهم يتفترشون آلامهم، ويتوسدون مواجع ذكرى ديارهم.
صحيفة أقلام الخبر، في تقريرها هذا تسلط الضوء على هذه المناسبة، من خلال رصد مشاعر بعض المواطنين الذين عبروا عن مشاعر الحنين بعد كل هذه السنين.
فقد قال المواطن فايز شراحيلي : صحيح أننا لم نبرح الوطن، ولم نعاني جراء خروجنا من بيوتنا، وقد حظينا بكل عناية ورعاية من لدن حكومة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه، منذ أول يوم خرجنا فيه، إلى هذه اللحظة، غير أن صور الأطلال، ومراتع الطفولة، وذكريات الماضي، لا تزال تستوطن الذاكرة، ولا يكاد يمر يوم، إلا وتعتصر الذاكرة بحدثٍ يذكرني بقريتي، وكما قال محمد عبده:
كل شي فيني يذكرني بشي...
مواطن آخر، قال لصحيفة أقلام الخبر:
حب الأوطان من الإيمان، ونحن مجبولين على حب ديارنا، وإن كنا فعلاً لانزال نعيش في وطننا، وننعم بالأمن والأمان ولله الحمد، وأما أرضنا التي ولدنا فيها وشربنا ماءها وتنفسنا هواءها فهي تعيش فينا، وستظل فينا للأبد، مستذكراً، ومستشهداً بقول ابن نباتة:
سقى عهدَها دانِي العهاد سفوحها
خياماً برغمي نأيها ونزوحها
وبلّغها عنِّي أتمّ تحيَّةٍ
عليل الصبا يُروي بفيه صحيحها
ولكبار السن، من أبناء الحُرّث، ذكرى خاصة، كما يقول الشيخ علي هزازي، مبتدئاً حديثه بــ آهة موجِعة، وزفرة خرجت من أعماق عمره الذي قضاه في تلك الديار، مستذكراً أصدقائه الذين قضى معهم ربيع العمر كما يقول، وهو يسأل عن أخبارهم بعد النزوح، وقال:
هناك أناس لم يعد لهم وجود سوى في ذاكرتي الضعيفة، التي لا تُحسن سوى حفظ صورهم وبعض أسمائهم وبقايا منازلهم.
ثم أطرق إلى الأرض برهة، ورفع رأسه، وتكاد عيناه تشرق بدمعها، وقال: ياولدي لقد صدق الشاعر حين قال:
ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردا
لقد رحل ياولدي الكثير من أترابي، وأنا في طريقي إليهم، ولكن هل تدري ما سبب رحيلهم؟!
صحيح أن الأعمار مقدرة، ولكن النزوح ياولدي، قصم آمالهم، وقضى على أعمارهم.
وكما أبكانا الوالد علي هزازي، فقد جاءت كلمات الوالدة، الطاعنة في السن، صالحة مجرشي، أكثر ألماً وأشد وقعاً، وهي تردد ما قاله ابن الدهان، قديماً :
أَفي كُلِّ يَومٍ فُرقَةٌ وَنُزوحُ
وَوَجدٌ لِماءِ المُقلَتَينِ نَزوحُ
إِذا قُلت قَد أَضحت طَريحاً عَصى النَوى
تَصَدَّت نَوى تُنضي المَطيَ طُروحُ
واستطردت قائلة:
لقد تفرقنا بعد النزوح أنا وأخواتي، بعد أن عشنا في قريتنا أكثر من ٥٠ سنة، لم يكن يفرّقنا سوى النوم، كنا نعيش في قرية واحدة، وداره واحدة، واليوم كل وحدة مننا في ديرة.
وأردفت، أسأل الله العظيم أن يرحم الملك عبدالله، ويجعل مثواه الجنة، لقد أكرمنا، أسأل الله أن يكرمه بجنة عرضها السموات والأرض.
وللشباب ذكرياتهم الخاصة، وإن كانت أخفّ وطئاً، وأقل عُمقاً، وهذا مالمسناه من الأستاذ إبراهيم، الذي قال: تعينت في إحدى المدارس القريبة من قريتي قبل النزوح بعام، ومع أنني أتوق لأصدقاء طفولتي، وأطلال قريتي، إلا أن وضعي الآن أفضل حالاً وأكثر استقراراً لاسيما في توفر المسكن المريح، والذي تتوفر فيه كل وسائل الراحة من مياه وكهرباء واتصالات وغيرها من وسائل الراحة، بالإضافة إلى جودة المواصلات....
وهذا لم يكن موجوداً في قريتي وغيرها من قرى الشريط الحدودي.
وختم بالقول:
أراعَكَ ما ترى من رسم دارٍ
وطارَ بقلبك البرق اللّموح
فخَفِّضْ من فؤادك حين يبدو
لعينك بارقٌ وتَهُبُّ ريح
وفي الأَطلال ما تشكو إليها
من البلوى ولكنْ لا تبوح
مَحَت آثارها للحيّ نأيٌ
وممَّنْ أَنْتَ تهواه نزوح
كما مُحِيَتْ سطورٌ من كتابٍ
وما يدري لها عندي شروح
تجدر الإشارة هنا إلى أن الشريط الحدوي كان يضم عدداً من القرى، منها الخشل والجابري وقوى وقايم الكعوب والعبادية، وأم القمع والخوبة الشمالية والغاوية وغيرها، وقد تم تسكين جميع النازحين في مساكن مهيئه في كل من إسكان الملك عبدالله بالحصمة، الواقع بين أحد المسارحة وأبو عريش، وإسكان رمادة، والخارش بمحافظة صامطة، بالإضافة إلى إسكان الروان بالعارضة.
وجميعها مصممة على أعلى المستويات وتتوفر بها كل متطلبات الراحة، بالإضافة إلى توفر المدارس ومراكز الرعاية الصحية الأولية والحدائق والمساجد، إلا أن الحنين إلى الديار، والأمل في العودة إليها، لايزال يرواد الجميع، لأنها لاتزال، وسوف تظل تعيش في الذاكرة، كما قال عبدالغني النابلسي:
حفيظة عهدي لا فقدت التفاتها
إلي فتبدو في الحشى وتلوح
حظيت بها بعد الفنا في وجودها
وقد كان لي منها هناك فتوح
حميدة فعل بالجميع وإنما
يرى السوء من عنها لديه نزوح.
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات