✍️ ملهي شراحيلي
في عالم الإعلام والصحافة، للصورة مكانتها الخاصة ومعناها الذي لا يشاركها فيه أي رمز صحفي آخر، بل أنها تقوم في كثير من الأحيان مقام جميع المواد الإعلامية، فهي أهم من الخبر، وأعمق من التقرير، وأكثر أهمية من الحوار الصحفي، هذا فيما يخص الصحافة والإعلام، وهي كذلك في عالم السياسة والاقتصاد، ناهيك عن أهميتها ومكانتها في مجالات الصحة والتعليم والصناعة.
وفي علم النفس لها سمعتها، وعليها تتكئ أغلب العلوم الإنسانية، والثقافات البشرية، ولا يجادل في تأثيرها على من يراها، إلا من لم يرها.
لقد لعبت الصورة عبر التاريخ أدوراً عديدة، ولاتزال الوسيلة الأهم في نقل الأحداث، والتلاعب بمشاعر الجماهير، من خلال إظهار ما خفي، أو إخفاء ما يظهر!!.
ففي العصور الغابرة، استخدمت الصورة لتخليد أحداث وأشخاص وكائنات، منها ماهو حقيقي، ومنها ماهو من نسج خيالات المصورون، على شكل رسومات ونقوش وزخارف ومجسمات وغيرها من المصورات.
وفي العصر الحديث لاتزال الصورة تلعب نفس الدور ولكن بأدوات مختلفة، فالطبيب يحتاج لصورة الأشعة أو صورة للدم، أو صورة لعضو من أعضاء الجسد، وهو يستخدم صوراً عدة لايضاح بعض المعارف والمهارات في دراسته، والمهندس لايستغني عن الصورة، والفلكي، والمزارع وصاحب المطعم والطيار، بل لا تكاد مهنة أو حرفة تستغني عن الصورة.
وبتعدد الصور وأنواعها وأشكالها تعددت أدوات إنتاجها وتنوعت استخداماتها، بل وحتى دلالاتها!!.
فبعض الصور يمكن أن تحمل أكثر من معنى، وممكن أن يرى فيها كل شخص أشياء لايراها سواه.
ومن هنا اكتشف البشر ليس العلوم المتفرعة من علم الصور والتصوير فحسب، بل تشكيل المفاهيم وتغيير الأفكار من خلال صناعة صور تثير فيمن يشاهدها الغرائز التي يراد التلاعب فيها، فنشأت الصور الكرتونية المتحركة والثابتة، وتوسع عالم الإنتاج الإعلامي.
ولأن الإعلام صنو السياسية، والسياسة أم الاقتصاد، والاقتصاد أبو الإعلام، فجاءت الصور لتربط الثلاثة بروابط، وإن كانت صورية، إلا أنها أصبحت ثوابت مجتمعية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر تعتبر الصورة الأمريكية، في الوقت الحاضر، هي الصورة الأبرز والأكثر وضوحاً وجاذبية، وقد نجح الإعلام الأمريكي في تصوير أمريكا على أنها النموذج الإنساني الأكثر إنسانية، وإن كان هذا لايتعدى كونه صورة بنورامية، إلا أن تلك الصورة رسخت في أذهان البشرية، وأصبح الجميع يرى في أمريكا ما لا يراه في سواها من تمدن وتطور ورقي!!!.
لقد ركز الإعلام الأمريكي على تصوير الإنسان الأمريكي على أنه إنسان صالح، يحارب الأشرار، ويعاني في سبيل ذلك، ولكنه في النهاية ينتصر على كل الصعاب!!، هذا بالضبط ما جسدته صورة ترمب، في عملية الإغتيال التي نجا منها بمعجزة، كما يصور ذلك ويصفه الإعلام الأمريكي.
إن الصورة البطولية التي ظهر بها ترمب، والدماء تسيل من أذنه، وتغطي أجزاءً من وجهه، وهو يرفع قبضته والعلم الأمريكي يرفرف عالياً، أنا شخصياً لدي قناعة تامة أن لامكان للصدفة فيها، صحيح أن الحدث قد لا يكون مخططاً له مسبقاً، ولكن تصرف ترمب، كان مدروساً، وربما كونه أمريكي، فهو متشرب للثقافة الأمريكية القائمة على الصورة الذهنية للخير والشر في الثقافة الأمريكية، فتصرف بوعي ولكن من خلال إستخدام عقله اللاواعي.
هذا التصرف تطابق تماماً مع الصورة الذهنية المجتمعية لدى الشعب الأمريكي، وكأن ترمب، بتصرفه ذلك لامس شعور الأمريكيين، وأثار فيهم ما يفتقدوه من قياداتهم سواءً الحزبية أو الرئاسية.
لم تحقق تلك الصورة التي يصفها البعض بالعفوية، مشاهدات مليونية فحسب، بل جذبت آلاف الأمريكيين، إن لم يكن الملايين لترمب.
ووفرت على حملة ترمب، مليارات الدولارات من نفقات الدعاية والإعلان لحملته الانتخابية.
هذا فيما يخص تلك الصورة الرمزية ودلالاتها السياسية والثقافية، أما فيما يخص الصورة الأمريكية، فالحديث عنها لا يحتويه المقال، ولكن وباختصار، فإن الصورة التي صنعها الإعلام الأمريكي لشعبه، وتقمصها الساسة، وصدقها من صدقها من باقي شعوب العالم، سمحت لأمريكا أن تنصّب نفسها سيدة العالم الأولى، وأن تكون لها اليد الطولى، في مغارب الأرض ومشارقها، بل بلغ بها الأمر أن تفرض أفكارها وبعض عاداتها على باقي دول العالم، تارةً بالترغيب وتارةً أخرى بالترهيب، فانتشرت الثقافة الأمريكية في الآفاق، وذاع صيتها، فتمددت شرقاً وغرباً، ثقافياً وسياسياً، وحتى عسكرياً، ولأن كل ذلك ليس إلا بناءً على صورة ذهنية قد لا تكون واقعية، ناهيك من أن تكون حقيقية، ومع أن تلك الصورة المطبوعة في الوجدان الأمريكي، ساهمت في تطوير الصناعة الأمريكية، العسكرية منها والمدنية، واستفاد العالم من الانتعاش الأمريكي، حتى في فترة الانكماش الاقتصادي الذي ضرب الاقتصاد وفتت البلاد وخنق العباد، ثم مالبثت أن انتفضت ونهضت، وهذا أيضا ساهم في ترسيخ الصورة أكثر وأكثر لدى الأمريكي سواءً كان مواطناً بسيطاً أو رئيساً.
فظلت تلك الصورة تتكرر أحياناً كواقع وأحياناً كثيرة افتراضياً، على شكل أفلام ومسلسلات وحتى أغاني ورقصات، ولكنها حافظت على جوهرها، وبنفس الصورة التي ظهر بها ترمب، تماماً.
بيد أن تلك الصورة التي حُفرت في ذاكرة الشعب الأمريكي لم تكن لتنطلي على الكثير ممن يعرفون أمريكا على حقيقتها، لاسيما بعد أن بالغت أمريكا في تصوير نفسها، وكما قيل في الأمثال: فإن مازاد عن حده انقلب إلى ضده، لذلك انتفض الشرق وبدأ يقاوم التمدد الأمريكي، ولكن ليس بتصوير نفسه على أنه المُخلّص أو المنقذ، وإنما كونه ضحية صورة أمريكية متغطرسة ومتجبرة.
ومما لاشك فيه أن مايجري الآن من صراع على النفوذ، سواءً في أوكرانيا، أو تايوان، أو إفريقيا، ليس سوى تصحيح للصورة الأمريكية، ولن ينتهي إلا بصورة عالمية أكثر واقعية، ومن الطبيعي أن تدفع أمريكا ثمن مبالغتها في صورتها، وسوف يتحمل الشرق، والعالم أجمع، إثبات تصحيح الصورة، بقدر حجمها وضخامتها، ولن يخرج من هذه الحرب منتصراً إلا من يملك تصوراً أشد وضوحاً ليس عن الطرف الآخر، وإنما عن ذاته، وعن الصورة التي يراها للعالم.
وعوداً على بدء فإن أحاديث الصور لاينتهي، ولكن أعمق الصور وأفصحها هي تلك الصورة التي رسمناها لأنفسنا عن أنفسنا، من خلال تصوراتنا الفكرية، وأحاديثنا النفسية، عن واقعنا ومستقبلنا، وأطّرناها بأفكارنا، وزيناها بما نعتقد.
ومن العجائب، والعجائب جمّة، أننا في كثير من الأحيان نتفاعل مع من حولنا ليس بما يقتضيه الحال، بل بما تجذّر في عقولنا من صورة ذهنية عن ذلك الشيء، أو ذلك الشخص، أو الموقف، أو الحدث، وحتى الأماكن والأوقات.
ولعل صورة الصباح أو البحر أو المساء أو المقبرة أو المطر، من أبسط الأمثلة على ارتباط الصورة بمعاني تصورناها عن تلك الأشياء، رغم أنها لا تمت لها بصلة.
لذلك فإننا نحتاج أحياناً إلى كسر الصورة النمطية لكي نخلق صورة أكثر جمالاً وواقعية، حتى وإن جرحتنا شظايا تلك الصورة القديمة.
إن المشاعر التي تنتابنا عند مشاهدة بعض الصور، ليس فقط لأن في الصورة مايثيرنا، وإنما لأن تلك الصورة هزّت صوراً في ذاكرتنا.
وكما قال الشاعر الجاهلي، بلعاء بن قيس الكناني:
إذا أنتَ حَرَّكتَ الوغَى وشهدتَها
وافلتَّ من قتلٍ فلا بد من كَلمِ.
MelhiSharahili@gmail.com
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات