المقالات

أحاديث النفس 

أحاديث النفس 

 

✍️ ملهي شراحيلي

يُحكى أن فلّاحاً استيقظ أحد الأيام فلم يجد فأسه في مكانها!. راوده الشك أن السارق هو أبن جاره، فراح يَراقُبُ الشاب ذهاباً و آياباً، وخلال تلك المراقبة رصد الفلاح طريقة مشي الشاب و رَصَدَ تعابير وجهه: كانت تشبه مشية و تعابير اللص. أَصْغى إلى كلامه: وكأنه يصغي إلى لص تماماً!!

‏بإختصار شديد، كل تصرفات الشاب كانت تدل على أنه هو السارق، ولا أحد سواه.

بعد مدة خرج هذا الفلاح إلى الحقل فوجد فأسه هناك.!.

وعندما عاد يتطلّع إلى تصرفات الشاب من جديد لم يلحظ عليه شيئاً من تصرفات اللصوص.!.

والعبرة من هذه القصة، أننا كبشر، وفي أوقاتٍ كثيرة تحكُمنا مشاعرنا وشكوكنا وتسيطر علينا ظنوننا فنخطىء الحكم، ونُسيء لمن حولنا، وأحياناً لأنفسنا.

إن أحاديث النفس، صفة بشرية، وميزة إنسانية، وهي ملازمة لنا في كل لحظة من لحظات حياتنا، ولا تكاد تمرُّ بنا لحظة، إلا وتُحدِّثُنا أنفسنا حديثٍ ما، عن أمر ما، ومن أهم وأعظم تلك الأحاديث الظن.

والظن المُراد به الخواطر التي لا تستقر. سواءً كانت عن النفس أو الآخرين أو عن أي أمر من أمور الدنيا والدين. 

ومن الظن ماهو حسن، ومنه ماهو قبيح، والتوقعات ليست سوى ظنون، مالم تُبني على أسس علمية وقواعد شرعية، ومقاييس منطقية.

والظن ليس مذموماً خالصاً، ولا ممدوحاً دائماً، فهو يأخذ صِبغة إطاره، وجوهر سياقه، ولا يُحكَم عليه لذاته، وإنما على تبعاته وآثاره، وما ينتج عنه، وما يترتب عليه من سلوك. 

عندما نزل قول الله تعالى:

‏{فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }

قال صلى الله عليه وسلم :

 (إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر) .

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الجبن والبخل والحرص غرائز سوء يجمعها كلها سوء الظن بالله عز وجل".

ويقولُ ابن مَسعُود: "قسماً بالله ما ظنَّ أحدٌ باللهِ ظناً؛ إلّا أعطَاه ما يظنُّ ... وذلكَ لأنَّ الفَضلَ كُلَّه بيدِ الله".

 

قال النووي: (الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل )).

 قال بعض العلماء: المراد به الخواطر التي لا تستقر، قالوا: وسواء كان ذلك الخاطر غيبة أو كفراً أو غيره، فمن خطر له الكفر مجرد خطر من غير تعمد لتحصيله، ثم صرفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه... وسبب العفو ما ذكرناه من تعذر اجتنابه، وإنما الممكن اجتناب الاستمرار عليه، فلهذا كان الاستمرار وعقد القلب حراماً، ومهما عرض لك هذا الخاطر بالغيبة وغيرها من المعاصي، وجب عليك دفعه بالإعراض عنه، وذكر التأويلات الصارفة له عن ظاهره.

ومن الظنون، الظن في النفس، وهو أخطرها وأشدها تأثيراً، قال ابن القيم: (أما سوء الظن بالنفس فإنما أحتاج إليه؛ لأنَّ حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش، ويلبس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالًا، فإنَّ المحبَّ يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك.

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ

وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا

ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه).

ومن العلماء، من رأى الكراهة في الظن بالنفس، قال الماوردي: (منهم من كرهه لما فيه من اتهام طاعتها، وردِّ مناصحتها. فإنَّ النفس وإن كان لها مكر يردي، فلها نصح يهدي. فلما كان حسن الظن بها يعمي عن مساوئها، كان سوء الظن بها يعمي عن محاسنها. ومن عمي عن محاسن نفسه كان كمن عمي عن مساوئها، فلم ينف عنها قبيحاً، ولم يهد إليها حسناً. وقال الأحنف بن قيس: من ظلم نفسه كان لغيره أظلم، ومن هدم دينه كان لمجده أهدم).

ومنهم من قال بالموازنة بين سوء الظن وحسن الظن. ينبغي على المرء أن - (يكون في التهمة لنفسه معتدلًا، وفي حسن الظن بها مقتصدًا، فإنه إن تجاوز مقدار الحقَّ في التهمة لنفسه ظلمها؛ فأودعها ذلة المظلومين، وإن تجاوز الحق في مقدار حسن الظن بها آمنها؛ فأودعها تهاون الآمنين. ولكل ذلك مقدار من الشغل، ولكل شغل مقدار من الوهن، ولكل وهن مقدار من الجهل).

ومما يؤثر عن علي رضي الله عنه:

"أسوأ الناس حالا من لا يثق بأحد لسوء ظنّه، ولا يثق به أحد لسوء أثره".

قال الشاعر:

‏وسوء الظنِّ في الأخلاقِ قُبحٌ

فلا تضع القبيحَ على الجمالِ

ولله در أبو العتاهية، حين قال:

خُذ مِن يَقينِكَ ما تَجلو الظُنونَ بِهِ

وَإِن بَدا لَكَ أَمرٌ مُشكِلٌ فَدَعِ

قَد يُصبِحُ المَرءُ فيما لَيسَ يُدرِكُهُ

مُعَلَّقَ البالِ بَينَ اليَأسِ وَالطَمَعِ

لَم يَعمَلِ الناسُ في التَصحيحِ بَينَهُمُ

فَاِضطَرَّ بَعضُهُمُ بَعضاً إِلى الخُدَعِ

ومما جاء في الحديث:

إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ.

فحذَّر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الظَّنِّ، وهو تُهمةٌ تقَعُ في القَلبِ بلا دَليلٍ، يعني سُوءَ الظَّنِّ، والحديثَ بما لم يُتيقَّنْ مِنَ الأخبارِ، وقال: «إنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحديثِ»، أي: يَقعُ الكذبُ في الظَّنِّ أكثرَ مِن وُقوعِه في الكلامِ، وقيلَ: المرادُ بأكذَبِ الحديثِ: حَديثُ النَّفْسِ؛ لأنَّه يكونُ بإلْقاءِ الشَّيطانِ في نفْسِ الإنسانِ. وقيل: إنَّ إثْمَ هذا الكَذِبِ أزْيدُ مِن إثمِ الحديثِ الكاذبِ، أو إنَّ المَظنوناتِ يقَعُ الكذِبُ فيها أكثرَ مِن المَجزوماتِ.

والظن كما يقع في النفس منها، فإنه يقع منها فيما سواها، وكما نظن في الآخرين، فإنهم يظنون فينا، وكما قال الشاعر:

‏أحسن بنا الظنَّ إنَّا فيك نحسنه

إن القلوبَ بحسنِ الظن تنسجمُ

والمس لنا العذر فى قولٍ وفى عملٍ 

نلمس لك العذرَ إن زلتْ بكَ القدمُ

لا تجعل الشكَّ يبني فيك مسكنه 

إنِّ الحياةَ بسوءِ .. الظنِّ تنهدمُ

ومن أجمل ماقيل في موافقة الظن:

"رافق رفيقٍ يجي ظنك على ظنـّه".

ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:

‏زِن من وزنكَ بما وزَنك

وَما وَزَنكَ بِهِ فزِنهُ

مَن جا إِلَيكَ فرح إِلَيـه

وَمَن جَفاكَ فَصُدَّ عَنهُ

مَن ظَن أنكَ دونهُ

فَاِترُك هَواهُ إِذَن وهِنهُ

وَاِرجِع إِلى رَبِّ العِبادِ

فكلُّ ما يَأتيكَ منهُ.

ومما يجب الإحتراس منه، عدم المبالغة في ظنون الآخرين اتجاهنا، وكما قال عبّاس محمود العقاد:

إذا خفت ظن الناس ظنوا وأكثروا

وإن لم تَخفْه أكرموك عن الظن

فإن شئت هبهم ألف عين، وإن تشأ

فدعهم بلا عين تراك ولا أذن.

وإذا كانت المبالغة في سوء الظن مؤذية للنفس والجسد، وتورث الأمراض النفسية والعقلية، وتؤدي إلى الوسوسة وجنون الإرتياب، فإن المبالغة في حسن الظن، لاتقل عنها خطراً، وربما تتعداها ضرراً.

فقد قال الماوردي: سوء الظن: هو عدم الثقة بمن هو لها أهل.

وقال ابن القيم: سوء الظن: هو امتلاء القلب بالظنون السيئة بالناس؛ حتى يطفح على اللسان والجوارح.

وقال ابن كثير: سوء الظن هو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محلّه.

وقال أبو طالب المكي: الفرق بين الفراسة وسوء الظن: أنَّ الفراسة ما توسّمته من أخيك بدليل يظهر لك، أو شاهد يبدو منه، أو علامة تشهدها فيه، فتتفرس من ذلك فيه ولا تنطق به إنْ كان سوءاً، ولا تُظهره ولا تحكم عليه ولا تقطع به فتأثم.

 وسوء الظن ما ظننته من سوء رأيك فيه، أو لأجل حقد في نفسك عليه، أو لسوء نية تكون أو خبث حال فيك، تعرفها من نفسك فتحمل حال أخيك عليها وتقيسه بك، فهذا هو سوء الظن والإثم).

ويبقى الظن ليس سوى حديثٌ من أحاديث النفس، وخاطرة من الخواطر، وفكرة من بنات الأفكار التي لا نستطيع منعها من المرور على عقولنا، ولكن بلا شك أننا نستطيع أن نتحكم في توجيهها أو على الأقل في ردة فعلنا وسلوكنا المبني عليها. 

‏‎والقلب مادام بالرحمان ذا ثقةٍ

فكل شيئٍ بحُسنِ الظَّن يُجتَلَبُ.