في عالم العلاقات الإنسانية، يبرز دائمًا ذلك الشخص الذي يتبنى دور الناصح الأمين، لكنه أحيانًا يتجاوز حدود النصح ليغرق في تفاصيل حياة الآخرين دون إذن أو استئذان. ورغم النوايا الحسنة التي قد تكمن وراء هذا السلوك، إلا أنه قد يتحول إلى عبء ثقيل على من يتلقى “النصيحة”، خاصة إذا جاءت بطريقة تخلو من الحكمة أو انطوت على انتهاك للخصوصية.
في القرآن الكريم، جاءت آية تحمل توبيخًا بليغًا لمن يأمرون الناس بالخير وينسون أنفسهم:
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة: 44).
إنها دعوة صريحة للنظر إلى الداخل قبل الالتفات إلى الخارج، للتأكد أن أفعالنا تتماشى مع أقوالنا. فمن غير المنطقي أن يعظ أحدهم الآخرين عن الصدق وهو يكذب، أو أن يدعوهم إلى الإحسان وهو يمارس الجفاء.
النصيحة الحقيقية تُقدَّم بمحبة وإخلاص، لكنها تتحول إلى مشكلة عندما تُفرض دون دعوة أو استئذان. التدخل في شؤون الآخرين، تحت ستار الإصلاح أو النصح، قد يؤدي إلى عواقب عكسية، ويفتح بابًا للصراعات بدلًا من الحلول.
الإسلام نفسه وضع ضوابط دقيقة لهذا السلوك، حيث حذر من التجسس والتدخل فيما لا يعني المرء:
{ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا} (الحجرات: 12).
وهذا تأكيد على احترام المساحات الشخصية للآخرين، وعدم التعدي عليها تحت أي ذريعة.
النصيحة الفعالة ليست أمرًا عشوائيًا، بل هي فن يحتاج إلى حكمة، توقيت، وأسلوب مناسب. تقدم النصيحة في الخفاء، مع اختيار كلمات رقيقة تحفظ كرامة الإنسان. والأهم أن تكون نابعة من شخص يُجسد ما يقول، لأن التأثير الحقيقي يأتي من القدوة أكثر من الكلام.
ولتحقيق التغيير الإيجابي في المجتمع، علينا أن نبدأ بأنفسنا. فالقيم والمبادئ لا تُفرض، بل تُلهم. كن نموذجًا يُحتذى به في أفعالك قبل أقوالك، وعندما تنصح، اجعل نصيحتك هدية تُقدم بحب، لا عبئًا يُفرض بالقوة.
لنتذكر دائمًا: النصيحة الحقيقية تُصلح، أما التدخل غير الحكيم فقد يهدم.
دمتم بود .. بقلم أحمد الخبراني
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات