المقالات

ما وراء الغضب

ما وراء الغضب

من أجمل ما يُحكى عن الغضب، ما أورده الأبشيهي، في كتابه المستطرف في كل فن مستظرف، ومنها:
خرج إبراهيم بن أدهم رحمه الله: يوماً يمشي فمرَّ على رجلٍ من اليهود وكان معه كلب، فأراد الرَّجل أن يُغضب إبراهيم، فقال الرجل لإبراهيم: يا إبراهيم، لحيتُك هذه أطهر من ذَنَب كلبي أم ذَنَبُ كلبي أَطهر من لحيتك؟ فإذا إبراهيم يقول: إن كنتُ من أهل الجنَّة فإنَّ لحيتي أطهر من كلبك، وإن كنتُ من أهل النَّار فذَنَب كلبك أَفْضل من لحيتي، فقال الرجل: هذه أخلاق النبوَّة، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ودخل عمر بن عبدالعزيز، المسجدَ في ليلةٍ مظلمة، فمرَّ برجل نائم فعَثَر به، فرفع الرجلُ رأسَه وقال: أمجنونٌ أنت؟
 (وما علم أنَّه أمير المؤمنين)
 فقال عمر: لا. فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مَهْ، إنَّما سألني أمجنون؟ فقلت: لا.
وسأل علي رضي الله عنه عامرَ بن مرّة الزهري:
- من أحمقُ الناس؟
قال: مَنْ ظنَّ أنه أعقلُ الناس.
قال: صدقتَ، فمَنْ أعقلُ الناس؟
قال: من لم يتجاوز الصمتَ في عقوبة الجهال.
هذه بعض المواقف والقصص، التي فيها حُسن تصرف مع الغضب، وفي كتب الأدب غيرها الكثير، وجلّها إن لم تكن كلّها تنم عن شخصيات ناضجة استطاعت أن تفصل بين مشاعرها وبين سلوكياتها!.
فالشخص الناضج يفصل بين مشاعره وبين سلوكياته، بمعنى قد لا تملك نفسك في موقف ما إلا أن تغضب، لكن ليس بالضرورة أن تتصرف بغضب!.
فالمشاعر ليست بيدك، لكن تصرفاتك بيدك، فأنت تستطيع أن تمسك نفسك لو قررت ذلك، أنت وما عودت عليه نفسك.
كما قال أبو الطيب المُتنبّي:
لكل امرئ من دهره ماتعودا. 
لكن بدايةً ماهو الغضب؟
وهل الغضب غريزة فطرية، أم عادة مكتسبة؟
من المعروف والشائع أن الغضب انفعال لحظي، وقيل هو تغير يحصل عند غليان دم القلب!. ولذلك فإن حالة الغضب يهتز لها سائر الجسد، وإن كانت شرارته تنطلق من الدماغ، فإنها لا تتوقف عن التأثير على كل جزء من أجزاء البدن، بل وكل خلية من خلاياه، ويشمل التاثير الجسدي للغضب زيادة في معدل ضربات القلب وضغط الدم، ومستويات الادرينالين والنورادرينالين. 
وبعضهم وضع الغضب كحركة استجابة سريعة من المخ لتهديد محتمل من الضرر.
 ويصبح الغضب الشعور السائد سلوكياً، ذهنياً، وفسيولوجياً عندما يأخذ الشخص الإختيار الواعي لإتخاذ إجراءات على الفور من شأنها وقف السلوك التهديدي من قوة أخرى خارجية. 
 ويمكن أن يؤدي الغضب إلى أشياء كثيرة جسدياً وعقلياً.
وفي علم النفس، يُنظر إلى الغضب على أنه شكل من أشكال رد الفعل والاستجابة التي تطورت لتُمكّن الناس من التعامل مع التهديدات.
وهناك ثلاثة أنواع من الغضب متعارف عليها من قبل علماء النفس: النموذج الأول من الغضب، والمسمى «الغضب السريع والمفاجئ» من قبل جوزيف بتلر، الأسقف الأنجليزى من القرن الثامن عشر، وهذا النوع متصلا بباعث للحفاظ على النفس، وهو مشترك بين البشر والحيوانات، ويحدث عندما تُعذّب أو تُحبس.
 والنوع الثاني من الغضب  يُدعى «المتأن والمتعمد»، وهو رد فعل على تصور الضرر المتعمد أو المعاملة غير العادلة من قبل الآخرين، وهذين الشكلين من أشكال الغضب هم أشكال عرضية.
 والنوع الثالث من أنواع الغضب هو نوع ترتيبي وهو مرتبط أكثر بالمميزات الشخصية أكثر من الغرائز أو الإدراك.
 أما التهيّج، والعبوس والفظاظة فهي أمثلة على شكل آخر من أشكال الغضب.
وقد أرجع أرسطو، بعض القيم إلى الغضب التي نشأت من الإحساس بالظلم لأنها مفيدة لمنع الظلم، وعلاوة على ذلك، فقد ذكر أرسطو، أن نقيض الغضب هو نوع من عدم الأحساس، والفرق في سرعة تأثر الناس كان ينظر له عموماً كنتيجة المزج المختلف في الصفات وقابلية التكيف للأشخاص.
و رأى سينيكا، أن " الأشخاص أصحاب الشعر الأحمر والوجه الأحمر هم حادوا الطباع بسبب المزاج الحار والجاف.
وبغض النظر عن أنواع الغضب ومسبباته، فإن التأثيرات التي تحصل في البدن نتيجة الغضب، والذي يسبب فيضاً هرمونياً يؤدي إلى ما يشبه التماس كهربائي داخل منزل بسبب اضطرابات الدارة الكهربائية، وما ينتج عن ذلك من تعطّل في كافة أجزاء الدارة الكهربائية.
وينتج عن الغضب ارتفاع هرمون النور أدرينالين في الدم فيتحرر الغليكوجين من مخازنه في الكبد ويُطلق سكّر العنب مما يرفع السكر الدموي، إذ من المعلوم أن أغلب حالات داء السكري تظهر بعد انفعال شديد أو حالة غضب عارمة.
أما ارتفاع الأدرينالين فيزيد من عمليات الإستقلاب الأساسي ويعمل على صرف كثير من الطاقة المُدّخرة مما يؤدي إلى شعور  المُنفعِل أو الغاضب بارتفاع حرارته وسخونة جلده، واحمرار وجهه، وارتعاش أطرافه، وتسارع أنفاسه. 
كما ترتفع شحوم الدم مما يؤهب لحدوث التصلب الشرياني ومن ثم إلى حدوث الجلطة القلبية أو الدماغية كما يؤدي زيادة الهرمون إلى تثبيط حركة الأمعاء مما يؤدي إلى حدوث الإمساك الشديد، وهذا ما يُفسر سبب إصابة ذوي المزاج العصبي بالإمساك المزمن، والتهاب القولون. 
ويزداد أثناء ثورات الغضب إفراز الكورتيزون، مما يؤدي إلى زيادة الدهون في الدم على حساب البروتين، ويحل الكورتيزون النسيج اللمفاوي مؤدّياً إلى نقص المناعة وإمكانية حدوث التهابات جرثومية متعددة، وهذا ما يعلل ظهور التهاب اللوزات الحاد عقب الانفعال الشديد، كما يزيد الكورتيزول من حموضة المعدة وكمية الببسين فيها مما يهيء للإصابة بقرحة المعدة أو حدوث هجمة حادة عند المصابين بها بعد حدوث غضب عارم .
وقد أثبتت البحوث الطبية الحديثة  وجود علاقة وثيقة بين الانفعالات النفسية ومنها الغضب وبين الإصابة ببعض أنواع السرطانات. 
 وتمكّن العلم أن يبين مدى خطورة الإصابة السرطانية على إنسان القرن العشرين، قرن القلق النفسي.
 وأكدت الدراسات أن الأشخاص الذين يعانون من انفعالات نفسية مريرة بصورة مستمرة يموتون بالسرطان باحتمال نسبي أكبر.!.
فالانفعالات النفسية تولّد اضطراباً هرمونياً خطيراً في الغدد الصماوية يؤدي إلى تأرجح في التوازن الهرموني بصورة دائمة، هذا التأرجح يساعد على ظهور البؤرة السرطانية في أحد أجهزة البدن.
ناهيك عن الأضرار الإجتماعية والمادية التي قد يسببها الغضب، وليس مايحصل من مظاهرات واحتجاجات وما ينتج عنها من صدامات وتخريب إلا نتيجة للغضب الذي يسيطر على تلك المجتمعات.
وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتمان الغضب فقد روى أبو هريرة، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا الحديث الشريف، رسالة لطيفة إلى أن الغضب طبيعة بشرية، ولا ضير من وجودها، ولا مشكلة في الإحساس بها، فليس المهم أن لا تغضب، ولكن الأهم أن تتحكم في سلوكك وردة فعلك في لحظة الغضب.
والغضب يعتري جميع البشر، ومنهم المؤمنين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}.
ففي هذه الآية لم ينهاهم الله عن الغضب، وإنما أرشدهم سبحانه إلى العفو عمن أغضبهم، فلم ينفِ عن عباده الغضب، وإنما أمرهم إذا غضبوا أن يغفرون. 
ولعلَّ من المقبول أن يجتمع في قوم أحلامٌ وجُهّال، فقد يكمل بعضهم بعضاً، فقد أنشد النابغة الجعدي أمام النبي صلى الله عليه وسلم:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
 بوادرُ تحمي صفْوَه أن يُكدَّرا
ولا خيرَ في جهل إذا لم يكن له
 حليم إذا ما أوردَ الأمرَ أصدرا
فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قوله عليه.
ومن فقد الغضب في الأشياء المغضِبة حتى استوى حالتاه قبل الإغضاب وبعده، فقد عدم من فضائل النفس الشجاعة، والأنفة والحميّة والغيرة والأخذ بالثأر لأنها خصال مركّبة من الغضب، فإذا عدمها الإنسان هان بها، ولم يكن لباقي فضائله في النفوس موضع، ولا لوفور حلمه في القلوب موقع.
قال المنصور: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو مَعْجَزَة.
وقال أحدهم: العفو يفسد من اللئيم بقدْر إصلاحه من الكريم.
وقال عمرو بن العاص: أكرموا سفهاءكم فإنهم يقونكم العار والشنار، واتفق معه مصعب بن الزبير حين قال: ما قلَّ سفهاءُ قوم إذا ذلّوا.
وفي هذا قال أبو تمام الطائي:
والحربُ تركب رأسها في مشهدٍ
 عَدْلُ السفيه به بألف حليم.
وليس هذا القول إغراءً بالغضب والانقياد إليه، بل دعوة إلى التوازن بين الحلم والغضب على أن يكون الحلم قائداً وله المبادرة. قال الشاعر:
إذا أنت جاريتَ السفيه كما جرى 
 فأنت سفيه مثله غيرُ ذي حلم
ولا تعضبَنْ عرض السفيه وداره 
 بحِلم، فإن أعيا عليك فبالصرم
فيرجوك تارات ويخشاك تـارة 
 ويأخذ فيما بين ذلك بالحـزم
فإن لم تجد بدّاً من الجهل فاستعن
 عليه بجهّال فذاك من العـزم.
ومن عَزَب عنه الحلم فانقاد لغضبه ضلَّ عنه وجه الصواب فيه، وضعُف رأيه عن خبرة أسبابه ودواعيه، حتى يصير بليد الرأي، ضعيف الفهم، مقطوع الحجة، قليل الحيلة، وقد يكون صاحب حقٍّ فيضيعه بغضبه مع ما يناله من أثر الغضب في جسمه ونفسه حتى يصير أضرَّ عليه مما غضب له. 
وقد قال أحد الحكماء: مَنْ كثر شططه، كثر غلطه.
وكما قال الشاعر:
وَلَم أَرَ فَضلاً تَمَّ إِلّا بِشيمَةٍ
وَلَم أَرَ عَقلاً صَحَّ إِلّا عَلى أَدَب
وَلَم أَرَ في الأَعداءِ حينَ خَبَرتُهُم
عَدُوّاً لِعَقلِ المَرءِ أَعدى مِنَ الغَضَب.

✍️ ملهي شراحيلي