المقالات

موسم (الغُبرة) ومنازلها الفلكية 

موسم (الغُبرة) ومنازلها الفلكية 

✍️ ملهي شراحيلي

ضيفاً ثقيلاً يبسط ردائه علينا كل عام، وهو موسم (الغُبرة). هذا المصطلح "موسم الغُبرة" المعروف والشهير في جازان، ولايكاد يُعرف في غيرها من مناطق المملكة، يبدأ غالباً مع مطلع يوليو من كل عام، ويستمر حتى أواخر أغسطس، وفيه تنشط الرياح السطحية، الشمالية الغربية، المندفعة من البحر الأحمر المثيرة للأتربة والغبار على السواحل الجنوبية الغربية من المملكة، إبتداءً من محافظتي الليث والقنفذة شمالاً مروراً بسواحل جازان، لتشمل جميع محافظاتها، الداخلية منها والحدودية.

و يرجع موسم الغُبرة، بحسب المراجع الفلكية، وتحليلات الطقس المناخية، إلى تعمّق منخفض السودان، حيث يدفع برياح جنوبية غربية معتدلة إلى نشطة السرعة، يثير الغبار في السودان ويندفع جزء منه خاصة لمرتفعات جازان وعسير وأحياناً الباحة والطائف، تزامناً مع نشاط حركة الرياح على سواحل البحر الأحمر والتي تثير الغبار بشكل محلي على طول الشريط الساحلي الممتد من جنوب مكة المكرمة، إلى أقصى جنوب محافظات جازان.

ومن الناحية الفلكية، يتزامن "موسم الغُبرة" عادةً مع دخول موسم الجوزاء، الذي يشمل منزلة الهقعة والهنعة، وموسم المِرزم، الذي يشمل نوء الذراع، وموسم الكليبين الذي يشمل منزلة النثرة، مما يعني أن موسم الغُبرة يشمل أربع منازل فلكية، لكل منزلة ١٣ يوماً، وجملة أيام موسم الغُبرة ٥٢ يوماً، وهذه المنازل هي أواخر منازل الصيف، وتبدأ من ٣ يوليو إلى ٢٣ أغسطس.

 

أول منزلة من منازل الجوزاء، الهقعة، وتسمّى رأس الجوزاء، وطالعها في الثالث من يوليو من كل عام، ومدّتها ثلاثة عشر يوماً، ويصادف دخولها هذا العام الأربعاء ٢٧ من ذي الحجة ١٤٤٥هـ.

والهقعة ثلاث أنجم نيّرة قريبة من بعضها البعض، وتسمّى الأثافي وهي من منازل القمر، والميسان أحد النجوم الثلاثة -ويسمّى الهقعة أيضاً، وهو نجم يبعد 1055 سنة ضوئية عن الشمس، وهو عملاق أزرق مزدوج -أي نجمان يدوران حول بعضهما- والصغير منهما قزم أبيض.

قال ابن عبّاس لرجل طلّق امرأته عدد نجوم السماء: يكفيك منها هقعة الجوزاء يريد أنها تبين منك -تطلق- بعدد كواكب الهقعة وهي ثلاثة.

 وكانت العرب قديماً تكره الزواج في نوء الهقعة، ويعتقدون أنّ الزواج في الهقعة يورث الفراق والطلاق!!.

 وسّميت الهقعة بهذا الإسم تشبيها بدائرة من دوائر الفرس يقال لها الهقعة وهي فرس مكروهة. ويقال فرس مهقوع، ودائرة المهقوع: وهو الفرس الذي به الدائرة التي في الصدر، ويزعُمون أن من ركب فرساً مهقوعاً فعرق تحته، اغتلمت امرأته.

 

ومن أبرز الملامح الطبيعية لنوء ( الجوزاء ) اشتداد الحر ( جمرة القيظ ) وكثرة السموم والعواصف وكثرة الغيوم المتجهة من الشرق إلى الغرب وارتفاع الرطوبة النسبية وحدوث بعض فترات السكون التامة للرياح، ونضوج ووفرة الفواكه الصيفية بالإضافة لنضوج بسر بواكير نخيل التمر. 

قال الساجع: إذا طلعت الهقعة أدرستِ الفقعة، وتعرض الناس للقلعة ورجعوا عن النجعة. 

 

المنزلة الثانية من منازل الجوزاء، الهنعة، وتسمّى الميسان ومنكب الجوزاء، وتسمّى ثاني الجوزاء أو الجوزاء الثانية، وطالعها في السادس عشر من يوليو، ومدّتها ثلاثة عشر يوماً، ونجما الجوزاء عند العرب الهقعة والهنعة ليسا كوكبة الجوزاء أو التوأم، فالهقعة في كوكبة الجبّار، والهنعة في رجل كوكبة الجوزاء وتبعد مائة وعشر سنة ضوئية ويسمّيه الصينيّون نجم البئر الثالث.

 والهَنْعَةُ في اللغة سمةٌ في منخفَض العنق. يقال: بعير مَهْنوعٌ، وقد هُنِعَ. والهَنَعُ: تضامنٌ في عنق البعير، وهو أن تنحدر قَصَرَتُهُ ويرتفع رأسه ويُشرف حاركه. وقد هَنِعَ يَهْنَعُ هَنَعاً. وظليمٌ (ذكر النعامة) أهْنَعُ، ونعامةٌ هَنْعاء يكون في عنقها التواء. وأكمةٌ هَنْعاءُ، أي قصيرةٌ، ومن كواكب الجوزاء الناعقان: أحدهما رِجلها اليسرى، وهو الذي يُسَمى الهنْعة والآخر في منْكِبها الأيمن،. وهما أضوأُ كوكبين في الجوزاء. وأَصلُ النَّعيق: الصِّياحُ، فالنَّاعِقان الكوكبان المضيئان من الجوزاء، لأنهما كالرَّاعيين الصائحين بالغَنَم.

والهنعة أشدّ أيّام السنة حرارة، ويُنصح في الهنعة بالإكثار من ريّ المزروعات، وهي آخر زراعة القيظ ومنها الملوخيّة والذرة والبطّيخ والشمّام والباذنجان والذرة والقثّاء والكوسة والقرع والثوم، كما تكثر محاصيل مختلف أنواع الرطب، وبانتهاء الهنعة يبدأ باطن الأرض بالبرودة.

قال ساجع العرب: إذا طلعت الهنعة تحمّل الناس للقلعة، وأُدرك البسر والتين. وتقول العرب: (إذا طلعت الجوزاء، توقّدت المعزاء، وكنست الظباء، وعرقت العلباء، وطاب الخباء) وإنما يعنون بطلوع (الجوزاء)، الهقعة والعنهة. و(المعزاء) الأرض الصلبة، تتوقّد بحرّ الشمس وقوله (كنست - الظباء) يريد أنها تدخل في الكُنُس من شدة الحرّ. ولها نومتان في مَكْنِسين: مَكْنس الضُّحى، ومكنس العشيّ، وهي تصاد بالنار، فإنها إذا رأتها ذَهِلت لها ودُهشت، لاسيما إذا أضيف إلى إشعال النار تحريك الجرس، فإنهت تنخذل ولا يبقى بها حِراكٌ البتة.

 

المنزلة الثالثة من منازل موسم الغُبرة، الذراع، ويسمّى المرزم، وهو المنزلة الخامسة من منازل فصل الصيف، اعتقد العرب أنّها ذراع الأسد المقبوضة وهي ليست من كوكبة الأسد. وقالوا: للأسد ذراعين، مقبوضة ومبسوطة. والمبسوطة (نجم المِرزم) تلي اليمن، والمقبوضة (نجم الشّعرى الغُميصاء) تلي الشام. وهو من منازل القمر، طالعه في التاسع والعشرين من يوليو ومدّته ثلاثة عشر يوما. ونجم المرزم في كوكبة الكلب الأكبر نجم دخل طور نهايته (نفذ منه الهيدروجين وشرع بحرق الهيليوم) ويبعد عن شمستا أربعمائة وتسعين سنة ضوئيّة، وأمّا الشّعرى الشّاميّة (الغميصاء) المع نجوم كوكبة الكلب الأصغر فتبعد احدى عشر سنة ضوئيّة.

 قال ساجع العرب: (إذا طلعت الذراعْ، حسرت الشمسُ القِناعْ، وأشعلت في الأفق الشعاعْ، وترقرق السرابُ بكل قاعْ). ومطر الذراع محمود قلّ ما يخلف. وتزعم العرب أنه إذا لم يكن في السنة مطر، لم يخلف الذراع. قال ذو الرّمة:

وأردَفت الذراعُ لها بنوءٍ  

 سجومِ الماء فانسجل انسجالا

 

آخر منازل موسم الغُبرة، منزلة النثرة، وتسمّى الكليبين والعشر الأوائل منها تسمّى كنّة سهيل (غيابه)، وطالعها في الحادي عشر من أغسطس، ومدّتها ثلاثة عشر يوماً. تطلع نجوم النثرة وهي ثلاثة أنجم اعتقد العرب قديما أنّها مخطة ينثرها الأسد كأنها قطعة سحاب. يقولون: بسط الأسد ذراعيه ثم نثر، والنثرة هي نجوم خليّةالنحل العنقوديّة، وهي تجمع نجمي مفتوح في كوكبة السرطان، قريب من المجموعة الشمسية وتبعد ما بين 520 - 610 سنة ضوئية، وكان جاليليو أول من رصدها بمنظاره ورأى أنّها تنوف على أربعين نجماً.

 

 يقول ساجع العرب: (إذا طلعت النثرةُ، قنأت البُسرة وجُني النخلُ بُكرة، وأوت المواشي حجرة، ولم تترك في ذات ضرع قطرة). وقوله (قنأت البسرة)، يريد اشتدّت حمرتها حتى تكاد تسودّ. وذلك أول وقت الصرام، فيجنون النخل بكرة لأنه في ذلك الوقت بارد ببرد الليل. وقوله (أوت المواشي حجرة)، أي ناحية منهم. لحاجتهم إلى ألبانها. وإنما يحلبونها في هذا الوقت، ويستنفضون ما في ضروعها، لأنهم قد هّموا فيه بفصال الأولاد، فلا يُبقون في الضروع لها شيئا، لتنال من الرعي وتسلو عن الأمهات. ويقولون إذا سقطت النثرة نظرت الأرض بإحدى عينيها، وإذا سقطت الجبهة نظرت بكلتي عينيها. ومعنى نظرت بإحدى عينيها: اجترأت الأرض على النبات فأطلعت؛ ونظرت بكلتي عينيها: سخنت ولانت، فأزدادت جرأة على النبات، وظهر في حد الشتاء انكسار. ويقولون إن الجمل لا يحن للماء إلا في طلوع منزلة الكليبين. ويستحب في النثرة تناول الأطعمة والأشربة الباردة ويستحب أيضاً الإستحمام عند كل غداة بالماء البارد وشرب المخيض من الألبان، ويتم فيها قلع فسائل النخيل وزراعتها حتى نهاية شهر أيلول ( سبتمبر ) ويتم فيها جني ثمار النخيل حتى منتصف شهر تشرين الثاني ( نوفمبر ) وينصح فيه بكثرة سقيا المزروعات ويزرع في منزلة النثرة فسائل النخيل والبطيخ والشمام والباذنجان والذرة الصفراء والقثاء والخيار والملفوف والقرع والكوسة والباميا والفاصوليا واللوبيا والبصل والفلفل وزهرة القرنبيط والسمسم والجزر واللفت والسبانخ والطماطم ( زراعة خريفية ) مع ملاحظة جعلها في موضع دافئ وفي هذا النجم تغور المياه السطحية ويرى سهيل في منتصف هذا الطالع قبل طلوع الشمس وتهدأ العواصف وتزداد الرطوبة ويبدأ نضوج الرمان ويبدأ فيه شتلات الطماطم والفلفل والباذنجان والبصل. وتشاهد بعض الطيور المهاجرة مثل الهدهد والدخل والصفارة والصقرقع. ويعتقد العرب أنّ عقد الزواج في هذا النوء حميد.

 

وبالعودة للحديث عن "موسم الغُبرة" فيعزى سببها إلى ضعف الرطوبة مما يقلل من ظهور السحب الماطرة وانخفاض قيم الضغط الجوي جنوب البحر الأحمر وجنوب غرب الجزيرة العربية مما يساعد في نشاط الرياح الشمالية الغربية المثيرة للأتربة والغبار. 

وفي ذات الفترة تحرك الكتلة الغبارية الكثيفة من شرق السودان عابرة فوق مياه البحر الأحمر على هيئة عوالق غبارية كثيفة. تتجمع هذه العوامل خلال موسم الغُبرة فتتسبب في تدني الرؤية الأفقية وانعدامها أو شبه انعدامها، خاصة في المناطق المكشوفة. 

 

وينقسم موسم الغُبرة إلى قسمين، حيث تكون بداية الغُبرة جافّة لأن مصدرها رياح جافة قادمة من صحاري إفريقيا خلال النصف الأول من يوليو، والثاني تكون الغُبرة محملة بالرطوبة لأن مصدرها الرياح الموسمية الرطبة خلال النصف الثاني من يوليو وبداية أغسطس وهذه الفترة هي البداية الفعلية لأمطار الخريف بمنطقة جازان ومعها تزداد نسب الرطوبة بالتالي ازدياد فرص حدوث العواصف الرعدية الماطرة الموسمية والتي تُسبق في الغالب بنشاط للرياح الهابطة الشديدة أحياناً مع جريان للأودية والشعاب بشكل أوسع على أغلب أودية جازان.

وفي كثير من الأحيان تتشكل عواصف ممطرة في أشد الليالي غُبرة، وذلك بسبب وصول ذرات الغبار المتطاير إلى طبقات الجو العليا، مما يثير السحب بعد مشيئة الله، لأن تُلقي حمولتها على شكل أمطار، فتكون الأجواء حينها كما قال عنترة بن شداد:

الجَوُّ أَقتَمُ وَالنُجومُ مُضيئَةٌ

وَالأُفقُ مُغبَرُّ العَنانِ الأَربَدِ

وَالبيضُ تَلمَعُ وَالرِماحُ عَواسِلٌ

وَالقَومُ بَينَ مُجَدَّلٍ وَمُقَيَّدِ

وَمُوَسَّدٍ تَحتَ التُرابِ وَغَيرُهُ

فَوقَ التُرابِ يَئِنُّ غَيرَ مُوَسَّدِ

وَبَوارِقُ البيضِ الرِقاقِ لَوامِعٌ

في عارِضٍ مِثلِ الغَمامَ المُرعِدِ

وَذَوابِلُ السُمرُ الرِقاقِ كَأَنَّها

تَحتَ القَتامِ نُجومِ لَيلٍ أَسوَدِ

وَحَوافِرُ الخَيلِ العِناقِ عَلى الصَفا

مِثلُ الصَواعِقِ في قِفارِ الفَدفَدِ

باشَرتُ مَوكِبَها وَخُضتُ غُبارَها

أَطفَأتُ جَمرَ لَهيبِها المُتَوَقِّدِ.

MelhiSharahili@gmail.com