المقالات

بُناةُ المستقبل

بُناةُ المستقبل

✍️ ملهي شراحيلي

استوقفني للكاتب الفذ في صحيفة أقلام الخبر، الأستاذ عبدالله الغيهب، بعنوان: 

لا يعني الحصول على مؤهل الركض وراء كرسي الوظيفة.

يتحدث فيه عن أهمية العمل، لاسيما الأعمال الحرفية، وأبواب الرزق بصفة عامة... ومما يستحسن اقتباسه، قوله:

"الإنسان لايجلس فارغاً في انتظار وظيفة قد تأتي وقد يمضي وقت طويل دون تحقق هذه الرغبة، وهاهم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والتسليم ماتركوا حرفة إلا عملوا فيها رعاة وحدادين ونجارين وفي الخياطة وغيرها."

ويضيف:

"ولعل البعض ادرك أهلنا آباء وأجداد وهم يحرثون الأرض ويبيعون الحطب ويقتنون الجمال لنقل المسافرين يمضون الأيام والليالي يمشون على الأقدام خلف الجمال."

ويمضي في توضيح فكرته قائلاً:

"لايعني الحصول على المؤهل الركض وراء كرسي الوظيفة والجلوس في الغرف الباردة ولا ننسى ٩٩٪؜ من الرزق في الأعمال الحرة كرسي الوظيفة لايشكل سوى ١٪؜ والباقي في التجارة بيع ، شراء ، ورش اصلاح وغيرها من مجالات العمل."

ويختم بقوله:

"بلادنا والحمدالله تتمتع بسوق يوصف بأنه الأقوى من بين اسواق العمل الإقليمية والعربية بدليل وجود أعداد كبيرة من الجاليات تقدر بالملايين دخولها عالية ولا تزال السوق بحاجة . شبابنا السعودي لاتنقصه القدرة على العمل بل رأيناهم في مواقع كثيرة مخترعين وقادة واصحاب مؤسسات كبيرة."

 

وأنا أطالع هذا المقال تذكرتُ موقفاً مر بي منذ أيام، عندما أردت عمل بعض الإصلاحات في المنزل، وبدأت أبحث عن عمّال لتنفيذ تلك الإصلاحات!!.

وكما تتوقع أخي القارئ الكريم، فإنني وجدت عشرات العمّال إن لم يكن المئات وجميعهم من الأجانب!!

وبدأت أفكر فعلاً فيما ذهب إليه أستاذنا عبدالله الغيهب، في قوله:

"شبابنا السعودي لاتنقصه القدرة على العمل بل رأيناهم في مواقع كثيرة مخترعين وقادة واصحاب مؤسسات".

وحقيقةً فقد أثبت الشاب السعودي والشابة السعودية مقدرتهم وجدارتهم في كثير من المهن والحرف، كالتعليم والطب وفي الهندسة والتكنولوجيا وحتى علوم الفلك والفضاء، لكنهم للأسف غائبون أو مغيّبون عن حرفٍ كثيرة، ومهنٍ وفيرة، كالخياطة، والحلاقة، وأعمال البستنة والرعي، وغيرها من أعمال البناء والنجارة والحدادة، والسباكة والكهرباء والبلاط والدهانات وغيرها من الأعمال التي يحتكرها الأجانب، وهي بلا شك مهن مُثريةٌ وحِرفٌ مُجدية تُدِرُّ على أربابها دخولاً وفيرة وأجوراً جزيلة.

فلماذا يا ترى يَعزُف شبابنا عنها؟

لماذا لانجد بين شبابنا بنّائين ونجّارين ؟

لماذا يُحجِم الشباب السعودي عن هذه المهن؟

هل الأسباب تكمن في تلك المهن أم في شبابنا؟

هل للتعليم دور في ذلك؟

وما موقف المجتمع من تلك الأعمال؟

كيف ينظر شبابنا لتلك المهن؟

 

إن مما لا شك فيه أن من شبابنا من حاول ولوج هذه المهن أو بعضها ولكن لم يُكتب لتلك المحاولات النجاح، لعدة أسباب، ولعل أهمها، الصورة الذهنية الراسخة لدى المجتمع، بما فيهم الشباب، عن تلك المهن.!

فالإنسان بفطرته ينشد في كلِّ أنشطته وأعماله وإبداعاته واكتشافاته وثقافاته وفنونه وكتاباته رسمَ صورةٍ في خياله لعالَمٍ يستطيع العيشَ فيه، ويظلّ يغذّي هذه الصورةَ على الدوام ويرسّخها في ضوءِ ما تصنعه مخيلتُه من لغةٍ ورموز وثقافة وألوان وجغرافيا وحدود لهذا العالم.

إننا لو تأملنا في تلك المهن لوجدنا أن أغلب أربابها من الأميين، مما يعني أنها أصلا لاتحتاج إلى تعليم متخصص، بل كل ما تحتاجه عزيمة ومثابرة واجتهاد، بالإضافة إلى الصبر.

لكن القصة لا تنتهي هنا، فنظرة المجتمع للخياط والحلاق والسباك، وحتى البنّاء لاتزال يشوبها الدونية، ويكتنفها الإشمئزاز!!.

 

لقد كان أبناؤنا وبناتنا إلى وقت قريب يتأففون من العمل في الشركات الخاصة، والمؤسسات، ناهيك عن العمل في المطاعم والمقاهي والأسواق، وما ذلك إلا بسبب نظرة المجتمع لهم، بسبب الصورة الذهنية التي رسخت في عقولهم عن تلك المهن، ولكن عندما غامر بعضهم، ليس باختراق تلك المهن، وإنما في تحطيم الصورة الذهنية في أذهانهم الشخصية، لتلك المهن، نجحوا ، ليس فقط في تقبل تلك المهن واحترافها، وإنما في تغيير الصورة لدى المجتمع. 

والحال ينطبق على المهن التي لاتزال صورتها الذهنية مشوّهة أو مقززة أو منفّرة لدى شبابنا.

فالأمر من وجهة نظري الشخصية لايحتاج إلى معاهد متخصصة ولا مؤسسات وشركات لتأهيل الشباب والشابات لهذه المهن، وإنما كل الاحتياج لكسر الصورة، ولن يتأتى كسرها إلا من خلال شبابنا السعودي وبأفكارهم قبل سواعدهم.

وأنا على يقين أننا خلال عقد أو عقدين من الزمن، سوف نجد شبابنا يكتسحون تلك المهن كما اكتسحوا قبلها مهناً كانت عصية عليهم فكريّاً.

إن أهم بناءٍ يجب أن يُبنى، هو بناء النفس، من خلال تهذيبها ونفي الأفكار السلبية عنها، وتعزيزها بالثقة والخيال، وكما قال الشاعر عبدالرحمن العشماوي:

أسمى البناءِ، بناءُ نفسٍ حُرَّةٍ

سلمتْ سرِيرَتُها منَ الأسْقامِ

وأعزُّ من مليونِ بُرْجٍ شاخِصٍ

أبراجُ همة عالمٍ وإمامِ.

هذا بالفعل مايحتاجه بُناة المستقبل، وعلينا كآباء وأمهات، بناء بُناة المستقبل.

بِناءُ العُلَى بينَ القنا والبوارقِ

على صَهوات الخيلِ تحت البيارقِ

وللهِ سِرٌّ في العِبادِ وإنّما

قليلٌ مَحَلُّ السِّر بينَ الخلائقِ.

وكمال قال الشاعر العبّاسي، أبو بكر الخوارزمي:

وكل بناءٍ أنت بانيه مُعجزٌ

بنيتَ المعالي أم بنيتَ المنازلا

فإذا ماغرسنا في نفوس أبنائنا وبناتنا أهمية العمل، وشجعناهم على خياراتهم المهنية، ولم نفرض عليهم أو نفترض لهم وظائف محددة، فإنهم لن يبنون مستقبلهم ومستقبل وطنهم فحسب، بل سوف يبنون عالَمهم الخاص.

ولا أعلم ماهي المشكلة إذا ما رغب ولدي أن يكون سبّاكاً أو حداداً، أو عامل نظافة!؟

ولا أرى سبباً في رفض فتاة لشابٍّ تقدم لها كونه يعمل حلّاقاً.

هذا لا يعارض ولا يتعارض مع وجهات نظر الآخرين الذين يطمحون في أن يكونوا طيارين أو أطباء أو مهندسين، فالمجتمع يحتاج السباك كما يحتاج الطبيب، ويحتاج الحلاق كما يحتاج الطيار، ويحتاج البستاني والراعي وعامل النظافة كما يحتاج المعلم والقاضي والمحامي. 

قال أحمد شوقي :

يا أيها الجيل الذي يبنى غداً

كن في بنائك حازماً مِقداما

واجعل أداتك في البناء محبةً

وتعاونا وتآلفاً ووئاما

وإذا بنيتَ المُلك فابنِ حقيقةً

لا تبنِ أوهاماً ولا أحلاما

وانظر إلى الماضى فإن المُهتدي

من يجعل الماضي هُدى وزِمَاما.