المقالات

هل أنا ظالم؟!؟

هل أنا ظالم؟!؟

✍️ ملهي شراحيلي

بالنسبة لي، الجواب نعم، نعم أنا ظالم.!

لكن ما ذا عنك أخي القارئ الكريم هل أنت ظالم؟

أنا هنا لن أقترح عليك الإجابة، ناهيك من أن أتطاول عليك، وأجيب عنك، لأنك أنت المعني بما يترتب على إجابتك.

وبغض النظر إن كانت إجابتك سوف تكون بنعم أو لا، المهم أن تأخذ وقتك في التفكير قبل أن تجيب، لأن الأهم ليست الإجابة وإنما عاقبتها. 

فهل أنت ظالم أخي القارئ الكريم؟!؟

قال ابن تيمية، رحمه الله : "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة."

أي أن الناس يعلمون عاقبة الظلم، ومتفقين أنها وخيمة، لكن هل هم متفقون على معرفة الظلم؟

بمعنى آخر، هل هناك وصف محدد للظلم؟

أو هل توجد صفات محددة إذا توافرت في الشخص يقال له ظالم؟

هل يوجد ظُلم في صورة عدل؟

وهل يوجد عدل في صورة ظلم؟

وما معنى الظلم أصلاً؟

بدايةً، كلمة ظلم في قواميس اللغة:

ظَلَمَ: (فعل)

ظلَمَ يظلِم ، ظَلْماً وظُلْماً ، فهو ظالمٌ ، وظَلاَّمٌ ، وهو وهي ظَلُومٌ ، والمفعول مَظْلوم.

ظلَم فلانًا : جار عليه ولم ينصفه، عكسه: عدل.

ظَلَمَ نَفْسَهُ بِما اقْتَرَفَ مِنْ جُرْمٍ : أَساءَ إلى نَفْسِهِ.

وفي الأمثال، يقال:

أظلم من أفعى/ حيّة: وصف للظالم المبالغ في الظلم فهو كالحيّة التي تأتي جحرَ الضبّ فتأكل ولدَها وتسكن جحرَها.

ومن أشبهَ أباه فما ظَلَم : لا غرابة أن يشبه الشّخصُ أباه.

ومَن استرعَى الذِّئْبَ فقد ظَلَم: يُضرب لمن يأتمن الخائنَ أو يولِّي غيرَ الأمين.

ومن هذه المفردة (ظلم) جاء الظلام، وظُلَمٌ جمع ظُلمه، وكذا الظُلمات.

ويعرّف الظلم بأنه وضع الشيء في غير موضعه.

والظلم حقيقةً هو نوع واحد، إلا أنه درجات، فمنهُ الأعظم والعظيم والأقل، وهو ظلم النفس، فكل أنواع الظلم هى فى حقيقتها ظلم للنفس، فإن الإنسان أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه، قال تعالي: {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، وقال سبحانه: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، فالظلم إذن هو الذنب المشترك بين جل بنى آدم، فمستقِلٌّ، ومُستكثِر.

 

ويُعرّف ظُلم النفس بأنه أن يحقق لها شهوة عاجلة ليورثها شقاءً دائماً، وسمّي ما يجره المرء على نفسه من أليم العقاب ظُلماً؛ لأنه وضع نفسه في غير الموضع الذي خلقت من أجله، فإنها مخلوقة لتكون مؤمنة بالله تعالى عابدة له، فإذا استعملها في غير ذلك يكون قد ظلمها، لما جلب لها من الشقاء.

ولا يخلو امرؤٌ من ظلمه نفسه، لما في الإنسان من نوازع الشهوات والشرور، لذلك لما نزل قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾شق ذلك على أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، أي أن الظلم درجات فمنه ظلم عظيم وهو الشرك بالله تعالى - عياذا بالله منه - ومنه دون ذلك، ولما كان كثير من الناس أو أكثرهم أسرى ظلم أنفسهم، نجد الحق سبحانه يحذر عباده منه، فيقول: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ - أي الأشهر الحُرم - أَنْفُسَكُمْ﴾، وهو نهي عن ظلم النفس عموماً، لكنه في الأشهر الحُرم أشد نهياً، ونجد القرآن الكريم يُذيِّل نواهيه بالتحذير من ظلم النفس، فيقول في شأن التعدي على حدود الله تعالى، وهي محارمه التي حرمها على عباده: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾، أي لم يحسن إليها بل جلب لها شقاءً ونقمة، حيث تعذب بفعل المعصية من ارتكاب المحظور أو ترك المأمور، وكان بوسعه ألا يوردها هذا المورد.

 

ولما كان المرء واقعاً في ظلم النفس لا محالة - إلا من عصمه الله تعالى - فإن الواجب عليه أن ينقذها ويخلصها من ذلكم الظلم، وذلك بالمبادرة بالتوبة التي تغسل الحوبة، وترقِّي العبد إلى درجة المحبوبية، كما كان من أبَوْينا آدم وحواء عليهما السلام، فإنهما لما أدركا شؤم المخالفة بالأكل من الشجرة التي نُهيا عن أكلها، بادرا بالتوبة النصوح فقالا:

﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾فتاب الله عليهما وغفر لهما، وكذلك كليم الله موسى، عليه الصلاة والسلام، لما أدرك ظلمه لنفسه بانتصاره للذي هو من شيعته على الذي هو من عدوه، فوكزه فقضى عليه، ولم يكن يقصد قتله، فما وسعه إلا أن ابتهل إلى الله تعالى بالاعتذار والإشفاق على نفسه، فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، فكان تشريعاً سماوياً لمن وقع في هذا الظلم، أن عليه أن يبادر بالإنابة إلى ربه، وسيجد الله غفوراً رحيماً، كما أخبر سبحانه عمن يفعل ذلك بقوله جل شأنه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾، فإن هذا ثناءٌ بالغ على من اعترف بالحقيقة التي وصل إليها، وأناب إلى مولاه سبحانه.

ومن أقبح أشكال ظلم النفس، جهل الإنسان بقيمة نفسه، والمقصود بظلم النفس، كما يرى بعض علماء النفس، أنه: إساءة الإنسان لنفسه نتيجة لقول أو فعل خارج عن حدود الشرع أو الأخلاق، لما فى ذلك من صدّها عن الرقي، والتسبب فى تنزلها عن مرتبتها، فمنعك نفسك عن خير يمكن أن تفعله، أو إيقاعها فى شر يمكن أن تحجزها عنه.. من أقبح أنواع الظلم لنفسك.

 وكما قال الشاعر(بتصرّف):

وأقبح شيءٍ أن يرى المرء نفسه 

رفيعاً، وعند العالمين وضيعُ

وأقبح منه أن يرى المرء نفسه 

وضيعاً، وعند العالمين رفيعُ

قال أحد الحُكماء:

‏مقامك حيث أقمت نفسك، لا حيث أقامك الناس [ فالناس لا تعدِل ولا تزِن ].

وهذا الظلم من أشكال الظلم الخفي، كونه يأتي تحت مسميات واهية وأسماء مستعارة تارةً بقصد التواضع، وتارةً بقصد التفاخر والكبرياء، وفي الحقيقة أنه في الحالتين ظلم للنفس لأنها يضعها في غير موضعها، فالمحتقر لنفسه ظالم لها وإن كان يرى احتقاره لها تواضعاً، كما أن المفاخر بنفسه والمتكبر ظالم لنفسه لأنه أعطاها أكبر من حجمها.

وكثير منا يختزلون الظلم فى كونه تعديّاً على مصالح الآخرين أو حقوقهم، ويغفلون عن ارتكابه ضد أنفسهم. 

قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}.

ونظراً لما يمثّله الظلم للمجتمعات، بما يترتب عليه من تبعات، فقد تناوله المفكرون والأُدباء والشعراء والحُكماء، في كل العصور وكل الثقافات، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم. وكان معاوية رضي الله عنه يقول: إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصرا إلا الله.

 وقال أبو العيناء: كان لي خصوم ظلمة، فشكوتهم إلى أحمد بن أبي داود، وقلت: قد تضافروا علي وصاروا يدا واحدة، فقال: يد الله فوق أيديهم، فقلت له: إن لهم مكراً، فقال: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، قلت: هم من فئة كثيرة، فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.

وقال بعض الحكماء: اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك، لا يعجبك رحب الذراعين سفاك الدماء، فإن له قاتلا لا يموت.

 

وكان يزيد بن حاتم يقول: ما هِبْتُ شيئاً قطّ هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك.

 

وبكى علي بن الفضيل، يوماً، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غداً بين يدي الله تعالى ولم تكن له حُجَّة.

ونادى رجل سليمان بن عبد الملك ـ وهو على المنبر ـ: يا سليمان أُذكر يوم الأذان، فنزل سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟ 

فقال: قال الله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} 

(سورة الأعراف:44).

 

ويُحكىَ أنَّ الرَّشيدَ حَبسَ أبَا العَتَاهِيَةِ، فكَتبَ أبُو العَتَاهِيَةِ عَلَىٰ حَائِطِ الحَبسِ:

"أَمَا واللهِ إنَّ الظُّلمَ لُؤمٌ

وَمَا زَالَ المُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ

إلَىٰ دَيَّانِ يَومِ الدِّينِ تَمضِي

وَعِندَ اللهِ تَجتَمِعُ الخُصُومُ

سَتَعلَمُ فِي المَعَادِ إذَا التَقَينَا

غَدًا عِندَ المَلِيكِ مَنِ الظَّلُومُ".

فَأُخبِرَ الرَّشِيدُ بِذَلِكَ فَبَكَىٰ بُكَاءً شَدِيداً وَدَعَا أبَا العَتَاهِيَةِ فاستَحَلَّهُ وَوَهَبَ لَهُ ألفَ دِينَارٍ وأطلَقَهُ.

وللشعراء في الظلم صوراً شتّى، فهاهو عنترة بن شداد، يصنع صورةً شعريةً في منتهى الجمال لعلاج الظلم فيقول:

وَإِذا بُليتَ بِظالِمٍ كُن ظالِماً

وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلي

وَاِختَر لِنَفسِكَ مَنزِلاً تَعلو بِهِ

أَو مُت كَريماً تَحتَ ظُلِّ القَسطَلِ.

وقال الشاعر الجاهلي، زُهير بن أبي سُلمى:

وَمَن لا يَذُد عَن حَوضِهِ بِسِلاحِهِ

يُهَدَّم وَمَن لا يَظلِمِ الناسَ يُظلَمِ

لكن الصورة التي صاغها المتنبّي، أعمق بكثير في بيتٍ أراه من أعظم ما قاله، عندما قال:

الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد

ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ

وهذا البيت جاء في واحدة من أروع قصائده، وكل بيت منها يستحق الوقوف والتأمل، يقول في مطلعها:

لِهَوى النُفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ

عَرَضاً نَظَرتُ وَخِلتُ أَنّي أَسلَمُ

ثم يبدأ منظومة الحِكَم مسترسلاً:

وَلَقَد رَأَيتُ الحادِثاتِ فَلا أَرى

يَقَقاً يُميتُ وَلا سَواداً يَعصِمُ

وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً

وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ

ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ

وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ

وَالناسُ قَد نَبَذوا الحِفاظَ فَمُطلَقٌ

يَنسى الَّذي يولى وَعافٍ يَندَمُ

لا يَخدَعَنَّكَ مِن عَدُوٍّ دَمعُهُ

وَاِرحَم شَبابَكَ مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ

لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى

حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ

يُؤذي القَليلُ مِنَ اللِئامِ بِطَبعِهِ

مَن لا يَقِلُّ كَما يَقِلُّ وَيَلؤُمُ

الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد

ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ.

هذا البيت حقيقةً يعيدنا من حيث بدأنا، وكأنه يجيب عن السؤال:

هل أنا ظالم؟

وهل أنت ظالم؟

تأمل معي أخي القارئ الكريم، قوله:

الظلم من شيم النفوس!!.

وكأنه يقول إن النفوس جُبلت على الظلم، كل النفوس، بل أنه ذهب إلى أبعد من ذلك، بقوله فإن تجد، وكأنه ينفي وجود إنسان لايظلم، إلا إذا وجدت علّة، أي سبب يمنعه الظلم.

فالظلم من منظور المتنبّي، من شيم النفوس.

الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد

ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ.

لكن هل ما ذهب إليه المتنبّي، حقيقةً أم مجرد خيال شاعري!!؟

إن الصورة الشعرية التي استطاع المتنبّي، خلقها في هذا البيت، ليست فريدة وجديدة في نوعها فحسب، بل وفيها من العمق النفسي، والنضوج الفكري ما لا يتسع المجال لذكره، لأنه هنا نظر للظلم كغريزة إنسانية، وفطرة بشرية، وليست مجرد ظاهرة أو صفة مكتسبة، ثم أنك لو تأملت البيت سوف تكتشف ماهو أروع من ذلك، فلو كانت هذه الصورة واقعية فقد أبدع، وإن كانت خيالية فقد صدق!!.

لماذا لأنه مارس الظلم على نفسه بوصفها ماليس فيها.

إن الإبداع الذي لا أريد أن أطيل عليك في وصفه، يكمن في أن هذا البيت تأتي فكرته من قول الخلّاق العليم الذي خلق الإنسان من طين، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)

فماذا قال الله سبحانه وتعالى عن الإنسان؟

قال تعالى في سورة الأحزاب :

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 

الإنسان ليس ظالم فقط،!!! بل ظلوماً جهولاً، وفي اللغة، ظَلُوم : صيغة مبالغة من ظلَمَ: ظلاَّم، كثيُّر الظُّلم، وامرأة/ ظَلُومة، ورجل ظَلُوم.