المقالات

كيف لمن لا يُرى أن يرى؟

كيف لمن لا يُرى أن يرى؟

✍️ ملهي شراحيلي

 

لطالما شكّلت رؤية الإنسان لما حوله مفاهيماً وأُسساً بنى عليها نظريات وفرضيات، واستنتج من خلالها بعض الحقائق، وأكد بها بعض البراهين والشواهد، حتى أنه أعتبرها أقوى قِواه ومنتهى ثقته، فقال أحدهم: ليس من راى كمن سمع!.

وقال الشاعر:

خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به

في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحلِ.

وكأنه بهذا يثق في حاسة البصر، أكثر مما يثق في حاسة السمع لديه، مع أن الحاستين في حقيقتهما ليستا سوى أداتين من أدوات الدماغ.

والأغرب من هذا، أن الإنسان بطبعه لا يأنف إذا ما تم التشكيك فيما يسمع، ولا يغضب إذا ما اتهم في قواه السمعية، ولا يجد حرجاً إذا ما سمع أصواتاً لاوجود لها، ولا يتردد في البحث عن علاج لتلك الأصوات.

وفي المقابل فإن من يرون مالا يُرى، لايخطر ببال أحدهم أن قواه البصرية ليست على مايُرام، ويستشيط أحدهم غضباً إذا ما قيل له أن ما رآه ليس سوى أوهاماً بصرية.

أنا هنا اتكلم عن الناس الطبيعين الذين لايعانون من مشاكل نفسية، ولا يشتكون من علل جسدية ظاهرة كانت أو مخفية.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن رؤية أشياء لا تُرى؟

وهل يمكن سماع أصوات لا وجود لها؟

والجواب على هذا السؤال من وجهة نظري الشخصية المتواضعة، نعم.

نعم، يمكن للإنسان الطبيعي أن يرى أشياء لا وجود لها، ولا يمكن رؤيتها إلا بعينه فقط، كما يمكن أن يسمع أصواتاً لا وجود لها، ولا يمكن لأحدٍ أن يسمعها سواه!.

أما إذا سألتني، كيف ولماذا؟

فالأمر ياعزيزي القارئ، لا يتعلق بتلك الأشياء التي رآها، ولا بتلك الأصوات التي يسمعها، وإنما بأدواته البصرية والسمعية، وليس بالضرورة قطعاً أن يكون الشخص يرى ما لا يُرى، لكي يسمع ما لا يُسمع، فقد يكون أحدهم لم يسمع أصواتاً قط، لا يسمعها غيره، ليرى أشياءً لا يمكن لغيره رؤيتها.

بعبارة أخرى، أن الشخص الذي يسمع أصواتاً، ليس بالضرورةِ أن يرى أشياءً لا يراها غيره، وكذلك الشخص الذي يرى أشياء لا يمكن رؤيتها، ليس بالضرورة أن يسمع أصواتاً لايسمعها سواه، ولكن في بعض الحالات، يحدث لبعض الأشخاص أن يرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع.

وفي كل الأحوال فإن الأمر طبيعي جدا، ولكن ما ليس طبيعي هو أن يُصدّق الشخص قِواه، سواءً كانت البصرية أو السمعية.

 

إن المعضلة الأساسية التي لا يفطن لها أغلب الناس، أن حاسة البصر، وحاسة السمع، وغيرهما من الحواس، الأخرى دورها ميكانيكي بحت، فالعين مثلاً مجرد أداة تنقل الصورة للدماغ، والدماغ هو الذي يحلل تلك الصورة ثم يحولها للذاكرة، وتتولى الذاكرة مهمة شرحها والاحتفاظ بها في مكانها المخصص من الدماغ، وهذه العملية لا تستغرق سوى أجزاء من الثانية.

من لطائف الذاكرة أنها جزئين، أو قسمين، حديث وقديم، فأحياناً تُنقل الصورة إلى الذاكرة القديمة، مع أنها حديثة، فتصل للوعي على أنها قديمة!!، ولذلك يعتقد بعضهم أن هذا المشهد قد مرّ عليه، وهذا يحدث للكثير لاسيما في أوقات الإجهاد والتعب كالسفر والسهر ونحوها. 

ولك أن تتخيل عزيزي القارئ، هذه العملية المعقدة التي تمر بالصورة من لحظة التقاطها بالعين، إلى لحظة إدراكها، وللعلم فأنا وأنت وأي إنسان آخر، تحتفظ ذاكرتنا بكل الصور التي رأينها يومياً، ولكن من وظائف الذكرة حذف الصور التي تعتبرها غير مهمة لنا، ولذلك كم من أشخاص عشنا معهم زمناً، ثم افترقنا، إذا قابلناهم مرة أخرى ننسى أسماءهم ولكن صورهم لا تزال في ذاكرتنا، بل أحيانا بعد غياب بسيط ننسى صور بعضهم، وأحياناً ننسى الصورة والاسم معاً!!.

وغيرها من مشاكل الذاكرة، وهذا ما أريد أن ألفت انتباهك له، وهو أن الإشكالية كلها في الذاكرة وليس فيما رأينا ولا ما سمعنا.

ومما يجب مراعاته أن قوة الذاكرة وجودتها، ودقة عملياتها لا يمت للعين بصلة، كما أن قوة النظر وصحة العين لا يمت للذاكرة بصلة.

ولكن الحالة الصحية( جسدياً ونفسياً) للشخص هي التي عليها الرهان، ومن الصحة النفسية، الإعتقادات والأفكار!!.

فالشخص الذي يعتقد أن عينه تستطيع أن ترى الجن مثلاً، سوف يراهم بلا شك، وحتى الذي يعتقد أنه قادر على رؤية الملائكة ربما يتمكن من رؤيتهم!.

ولكن هل رؤيته تلك حقيقة!؟!

إن العين البشرية، مصممة بمواصفات محددة، ولها قدرات محدودة، وأبسط مثال على ذلك، رؤية الفيروسات والكائنات الدقيقة، ناهيك عن رؤية الضوء والهواء، وأطياف الأشعة التي تستخدم لدى بعض الكائنات، لدعم الرؤية لديها.

فالبشر لديهم طيف ترددي، أعلى منه لا يُمكن رؤيته، وأدنى منه لايمكن رؤيته، أعني رؤية طبيعية حقيقية.

ولو تأمل الإنسان في نفسه لوجد أنه أساساً مخلوق مما لا يُرى، فكيف لمن لا يُرى أن يرى ما لا يُرى!؟!

ولقد صدق الشاعر المخضرم، قيس بن زهير، حين قال:

قُلْ لِمن يفهم عنّي ما أقول

أقصِر القولَ فذا شرحٍ يطول

ثَمَّ سرٌّ غامضٌ من دونه

ضُربَتْ واللَه أعناق الفحول

أنتَ لا تعرفُ إيّاك ولا

تدر من أنتَ ولا كيف الوصول

لا ولا تدري صفاتٍ رُكّبت

فيك حارت في خفياها العقول.