المقالات

نظرة تأملية في العلاقات السعودية التركية 

نظرة تأملية في العلاقات السعودية التركية 

 ✍️ ملهي شراحيلي

ما إن انقضى موسم حج هذا العام، وبكل يسر وسهولة، بفضل الله تعالى، ثم بفضل الجهود الحثيثة من حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين، وبمتابعة شخصية دقيقة من لدن سيدي ولي العهد، حتى بدأت وفود الدول ومسؤليها بالتوافد إلى المملكة العربية السعودية.

فما إن غادر وزير الخارجية الأمريكية، جدة، الأسبوع الماضي، إلا وهبطت طائرة رئيس الوزراء الياباني، في ذات المطار، وتلتها اليوم طائرة رجب طيب أردوغان، ولا أشك مطلقاً أن في الأفق أكثر من طائرة تنتظر الإذن لها بالهبوط، وعلى متنها رئيس دولة أو رئيس حكومة.

وجلّهم إن لم يكن كُلّهم يخطبون ود المملكة، ويتلمسون الحلول لدى قادتها حفظهم الله. 

وكما قال خالد الفيصل:

يا سيّدي عاش راسك عاش

عسَى أكثر الناس يفدونه

شيخ(ن) لكل المراجل حاش

ما يتلي الناس يتلونه

صدره بحب العُرب جيّاش

تضحك ثناياه وعيونه

ومخلاب صقر(ن) إلَى من ناش

يفصل عن الهامه مُتونه.

حقيقةً لقد كانت المملكة العربية السعودية بفضل الله ثم بحنكة قادتها وقوة إرادتها، ولا تزال وسوف تظل بمشيئة الله تعالى، ليست قبلة المسلمين ومأوى أفئدتهم فحسب، بل والحصن الحصين للاقتصاد العالمي، والضامن الوفي، والمورد السخي، لإمدادات الطاقة التي تغذي نهضة العالم، وهي كذلك المرجع السياسي، والملجأ الشرعي لدول العالم باختلاف قوانينهم ومذاهبهم، لما عُرف عنها من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف والأطياف البشرية. 

إن الأيادي البيضاء للمملكة العربية السعودية وقادتها، لاتطوّق الأشقاء في الخليج والوطن العربي، بل أنها تمتد لتحتضن شعوب العالم، بغض النظر عن مواقعهم الجغرافية، وانتماءاتهم الطائفية والحزبية، ومللهم ونحلهم السياسية والدينية.

وتأتي العلاقات السعودية التركية، كأنصع الأمثلة على ما تنتهجه المملكة العربية السعودية في علاقاتها القُطرية والاقليمية، مع الدول الإسلامية الشقيقة، رغم الماضي المؤلم لتلك الحكومات، ومع أنني لست ممن يعشقون اجترار الماضي، بغض النظر عمّا فيه من أتراح أو أفراح، إلا أنني على قناعة تامة، أن استخلاص النتائج لا يتأتى إلا من خلال تحليل الوقائع، وأن الحاضر ليس سوى امتداد للمستقبل، ولذا فمن المنطق أن نستعرض، ولو على عجالة تاريخ العلاقات السعودية التركية. 

فياترى، متى وكيف بدأت العلاقات السعودية التركية؟

ومامدى قوتها؟

وماهي أهم المنعطفات التي تعرضت لها تلك العلاقات؟

وأين تلتقي علاقات السعودية بتركيا؟

وإلى أين تتجه؟

وماهو الأثر الذي سوف تتركه العلاقات السعودية التركية على البلدين، وعلى العالم؟

إن الزيارة التي يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للملكة، بعد انتخابه رئيساً، ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، وماهي إلا مكمّلة لعلاقات سعودية تركية بدأت منذ العالم ١٩٢٩م.

 

 لقد شهد عام 1929م، توقيع اتفاقية الصداقة والتعاون بين البلدين، وقد توطدت العلاقات الثنائية عبر الزيارات المتبادلة بين قادة المملكة وتركيا، وكانت أولاها زيارة الملك فيصل، رحمه الله، حينما كان ولياً للعهد، في العام 1932م، في طريق عودته من رحلة أوروبية، وزيارته الثانية لها بعد أن أصبح ملكًا في العام 1966.

وأخذت العلاقات بين البلدين تتطوّر وتنمو، حيث ارتكزت في كل مراحلها على الموضوعات التي تهمُ مصالح البلدين والأمة الإسلامية.

وخلال عامي 2015 و2016، شهدت العلاقات بين المملكة وتركيا حِراكًا وتطوراً كبيراً، حيث عُقدت خمس قمم سعودية تركية جمعت خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، مع الرئيس أردوغان.

وفي زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز، إلى تركيا في أبريل 2016، تم الإعلان عن إنشاء مجلس التنسيق السعودي التركي بهدف تعزيز التعاون المشترك في المجالات السياسية والدبلوماسية، والاقتصاد والتجارة، والبنوك والمال، والملاحة البحرية، والصناعة، والطاقة، والزراعة، والثقافة، والتربية، والتكنولوجيا، والمجالات العسكرية والصناعات العسكرية والأمن، والإعلام، وقد عقد المجلس اجتماعه الأول في فبراير 2017 في أنقرة.

وخلال هذه الزيارة منح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسام الجمهورية للملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وهو أعلى وسام في تركيا يمنح لقادة ورؤساء الدول.

من جانبه، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المملكة في 28 أبريل 2022، في زيارة دولة، للمملكة العربية السعودية، واجتمع مع ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، لاستعراض سبل تطوير العلاقة بين البلدين في مختلف المجالات.

ومن نافلة القول أن التعاون في المجال الاقتصادي بين المملكة وتركيا، بدأ فعلياً، بتوقيع اتفاقية التعاون التجاري والاقتصادي والفني عام 1973، والتي ساهمت في وصول حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2006 إلى نحو 3 مليارات دولار.

وتشكَّلَت على ضوء الاتفاقية السابقة اللجنة السعودية التركية المشتركة، وهناك أيضاً مجلس رجال الأعمال السعودي التركي، والذي أسهم منذ إنشائه في أكتوبر 2003، في الدفع بتطور العلاقات الاقتصادية بين البلدين، إذ أصبحت المملكة من ضمن أكبر 8 شركاء تجاريين لتركيا على مستوى العالم.

ونجحت بيئة الأعمال الجاذبة في المملكة باستقطاب 390 شركة تركية للاستثمار في السوق السعودي برأس مال إجمالي بلغ 985.6 مليون ريال، وتنشط الشركات التركية في قطاعات عديدة أهمها التشييد، والصناعة التحويلية، وتجارة الجملة والتجزئة والمطاعم.

ووصل عدد الشركات ذات رأس المال السعودي المستثمرة في تركيا حالياً إلى 1140 شركة متنوعة في أكثر من قطاع.

وبلغت صادرات المملكة إلى تركيا خلال الثلاث سنوات الماضية 37.5 مليار ريال، وكانت أهم السلع الوطنية المصدرة إليها لدائن ومصنوعاتها؛ ومنتجات معدنية، ومنتجات كيماوية عضوية، ورصاص ومصنوعاته، ومطاطاً ومصنوعاته.

فيما بلغت قيمة واردات المملكة منها خلال الثلاث سنوات الماضية، 21.7 مليار ريال، وكانت أهم السلع المستوردة: التبغ وأبداله، والسجاد والأرضيات، والأجهزة والمعدات الكهربائية وأجزائها، والآلات والأدوات الآلية وأجزائها، والأثاث والمباني المصنعة.

ولم تقتصر العلاقات السعودية التركية، على الشق الاقتصادي، والميزان التجاري، بل تعدّاه إلى ماهو أبعد من ذلك، وكما هي عادتها دائماً وأبداً، تبقى المملكة العربية السعودية سباقة في مد يد العون والعطاء للأشقاء والأصدقاء، ولقد كان الدعم السعودي لتركيا سخياً، وحرصت المملكة على تقديم الدعم التنموي لتركيا، وفي هذا الشأن قدم الصندوق السعودي للتنمية دعمه لـ11 مشروعاً تنموياً هناك، بقيمة بلغت 1090.63 مليون ريال، شملت مشروعات نقل الطاقة الكهربائية، وتوفير المياه، وتجديد وكهربة الخطوط الحديدية، وإنشاء وصلات طرق وجسور، ومطار أتاتورك إسطنبول الدولي، إضافةً إلى دعم مشروعات مستشفيات تعليمية وتطبيقية في جامعات تركية.

وتوضح إحصاءات منصة المساعدات السعودي، أن المملكة قدمت إلى تركيا مساعدات مالية بقيمة 463.816.390 دولار، عبر 37 مشروعاً شملت قطاعات التعليم، والطاقة، النقل والتخزين، والصحة، والمياه والإصحاح البيئي، وذلك منذ العام 1979 وحتى العام 2020، وكان الدعم الأكبر في عام 2001 بمبلغ 205.550.000 دولار، وامتدت يد البذل والعطاء إلى المجالات كافة، ووقفت المملكة إلى جانب الحكومة التركية والشعب التركي لمواجهة الزلازل والكوارث الطبيعية، ودعمت مراكز الأبحاث هناك، وقدمت المساعدات البترولية.

هذه المعطيات والأرقام، تؤكد بما لايدع مجالاً للشك أن التعاون السعودي التركي، من النماذج العالمية التي يُحتذى بها، وهو يشكل فرصة لكلا البلدين للنمو والتقدم، لاسيما في ظل الظروف التي يشهدها العالم.

إن المملكة العربية السعودية، وفي جميع علاقاتها مع دول العالم، لاتنظر لمصالحها الشخصية فقط، ولا تؤسس علاقاتها على مبدأ أنا أكسب فقط، إنما مبدأها الأساسي وفي جميع علاقاتها قائم على أنا أكسب وأنت تكسب.

ولهذا فلا غرابة في أن يتوافد قادة الدول ورؤساء الحكومات إلى المملكة العربية السعودية، وتنهال الدعوات على قادة المملكة ومسؤليها من الشرق والغرب، لزيارة تلك البدان، وعقد صفقات بمليارات الدولارات. 

وكما أكرمت السعودية زائريها من حجاج بيت الله الحرام، وزوار الحرمين الشريفين من حجاج ومعتمرين وزائرين، من خلال تسخير كل إمكاناتها المادية والبشرية، فهي أيضا تكرم من جاءها ضيفا من زعماء العالم، وكما قال عمرو بن الأهتم:

وَنُكرِمُ ضيفَنا ما دامَ فينا

وَنُتبِعُهُ الكَرامَةَ حَيثُ مالا.