المقالات

التأمل القلِق (طريقٌ منغلق)

التأمل القلِق (طريقٌ منغلق)

✍️د. سعود السويهري

أخصائي أول نفسي

لا مناص للإنسان من التعرض لبعض التغيرات السلبية في حياته؛ فليست هناك صحة نفسية كاملة يعيشها طيلة أوقاته، حيث يصاب الأفراد بالتعب والإعياء والإجهاد النفسي، ولا شك أن القلق في مقدمة هذه الأعراض، فالقلق - في حد ذاته- عبارة عن رد فعل طبيعي لكل ما سبق، فهو ينذر وينبه على وجود مخاطر وتغيرات غير طبيعية، كما أنه يوجه للاهتمام وأخذ الحيطه والحذر إذا ما كان على مستوى القلق الطبيعي والصحي.

ولا شك أن هجمات القلق الزائد تتصف بالشراسة، فحينما يتوغل في فكر الإنسان يسلبه سلام اليوم، كما أنه لا يحل مشكلات الغد، والعديد من الأفراد يشعرون بالقلق ويريدون التخلص منه دون استطاعة؛ الأمر الذي يؤرقهم؛ ويجعلهم دائما ما يعانون من عدم الراحة النفسية والاستقرار والضغط النفسي والعصبي، فالقلق عبارة عن شعور غير سار وخبرة سلبية علقت في الأذهان وصورها العقل بأشكال مختلفة، ويحتاج إلى ممارسات عقلية إيجابية مضادة.

 وقد أشار العديد من المختصين إلى أهمية التأمل كنوع من أنواع الإفاقة العقلية والقدرة على تعزيز النظرة ويقظة العقل، وليس فقط للاسترخاء العضلي والذهني ونحوه، ويعرف التأمل بأنه مجموعة من الممارسات التي تركز على الانتباه والوعي، وتحقيق نوع من الضبط الذاتي للعمليات النفسية من خلال التأمل بالعديد من الاستراتيجيات كاليقظة العقلية، والتأمل التعبيري والحركي، والتعاطف، والتأمل التركيزي، والتأمل بالاستبصار.

 فالهدف الأسمى للتأمل هو التخلص من الضجيج النفسي، والتفكير السلبي المسبب للقلق والعمل على الثبات والاستقرار الانفعالي. فخلوة الفرد مع نفسه في ظل معترك الحياة وزحامها الذي يبعده عن مصادر الطمأنينة ترده من جديد إلى عالم الطمأنينة والتدبر والتحليق في سماء الفكر الصافي.

والمعضلة الكبرى حينما يتحول التأمل نفسه إلى التأمل الذي يحمل في طياته خطوات مشوهة يشوبها المسار الخاطئ والطريق غير الصحيح، وهو ما يسمى بالتأمل القلِق، وهو عبارة عن إساءة استخدام استراتيجيات التأمل، كاستخدام التأمل في لحظات الضعف النفسي دون وجود مختص يوجه ويحرك الأفكار والسلوكيات، ويوضح الصحيح من الخطأ، فالفرد المتأمل في الماضي وأحداثه المؤلمة، واجترار الأفكار السلبية يمارس التأمل حقيقة ولكنه تأملا يشوبه القلق، فيصبح العلاج في حد ذاته هو المرض، والإقدام على الحلول هو الانتكاسة.

 وتتناقض فكرة التأمل القلِق مع ما يسمى براحة البال، والتي تعني الشعور بالطمأنينة وتوافق التوازن العقلي مع الفهم الصحيح والشامل، والتخلي عن ويلات الماضي وعدم انشغال الذهن يما يرهقه ويؤرقه. قال تعالى "سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم". ومعنى إصلاح البال: أي إصلاح الخاطر والتفكير والقلب والعقل، والبعد عن تعكير البال وتعسير الحال إلى تيسير الحال، وانشراح الصدر، فتنام قرير العين ملْ جفونك.

 وبعد العرض السابق فالهدف من هذه المقالة ختاما هو تعريف القارئ بعدة أمور أهمها: التعرف جيدا على ما ينتابك من ضغوطات تسبب لك القلق، وكذلك تحديد حجم القلق الذي ينتابك، والتعامل معه بطريقة إيجابية صحيحة، فلا تنجرف مع خيبات الأمل، ولا تتوه في ويلات المعاناة، والخطوة الأهم هي استخدام التأمل الإيجابي القائم على التفطن والفطنة إلى استخدام الذهن الصافي والواعي، والانتباه لمجريات الأمور، والبعد عن الانزلاق في سلبيات التأمل، ومن أخطرها التأمل القلِق، فيصبح السلاح الذي تدافع به عن ذاتك هو نفس السلاح الذي تقتل به نفسك، وتنزف بعدها دماء الآلام والأحزان والضيق. والنصيحة الأهم هي أن تجعل المختص النفسي في حسبانك ولا عيب، فهو من يجعلك تغوص في عالم التأمل الإيجابي النافع يوجهك ويرشدك ويخوض معك الطريق الصحيح، ويجعلك تقف عند محطة الوصول.