المحليات

السمسم الجازاني.. إرثٌ زراعيّ يفوح بعبق الأصالة وثراء الأرض

السمسم الجازاني.. إرثٌ زراعيّ يفوح بعبق الأصالة وثراء الأرض

جازان -أقلام الخبر 

يشكّل القطاع الزراعي في منطقة جازان رافدًا اقتصاديًا واجتماعيًا مهمًا لأهاليها، بفضل مقوماتها الطبيعية الفريدة من تربة خصبة ومناخ ملائم، إضافةً إلى وفرة المياه الجوفية والأمطار الموسمية، ما يمكّن المزارعين من استثمار الأراضي بزراعة مئات المحاصيل والأشجار بأساليب فعّالة وبأقل التكاليف، لتصبح بذلك جازان نموذجًا مميزًا تجمع بين الزراعة التقليدية والتقنيات الحديثة.

 ومن بين محاصيلها المزدهرة يبرز نبات السمسم أو "الجلجلان" كما يسميه أهالي جازان، رمزًا حيًا للتراث الزراعي الغني، وحكايةً متجددة عن التلاحم بين الإنسان وأرضه عبر الأجيال.

 ويُمثّل السمسم جسرًا يربط الإنسان بالتربة منذ القدم، فقد ارتبطت حياة المزارع الجازاني بهذا النبات الذهبي، مستمدًا خصوبة الأرض ودفء الشمس وعطائها السخي، حيث بلغت المساحات المزروعة نحو 6,400 هكتار.

 وتبدأ رحلة زراعة السمسم ببذور صغيرة تُوزَّع بطريقة تقليدية عبر المحراث، حرصًا على نمو النباتات بشكل طبيعي ومثالي، لتكتمل دورة نموها بين 90 و120 يومًا.

 وينمو نبات السمسم ليصل ارتفاعه نحو متر تقريبًا، متوجًا بأوراق خضراء أرجوانية بيضاوية، تحمل كل غصن زهرة جرسية بيضاء، فيما تتحول كبسولات بذوره تدريجيًا من الأخضر إلى البني أو الأبيض عند الحصاد، لتكتمل لوحة طبيعية متناسقة.

 ومع اكتمال المحصول، يتجلى التلاحم بين الإنسان والأرض، إذ يجتمع الأهالي في الحقول في مشهد يفيض بالبهجة والعمل الجماعي، وتبدأ عملية الحصاد أو "النفل"، بعد صلاة الظهر للاستفادة من حرارة الشمس، يليها نفل الحزم وضرب كل حزمة بالعصيان أو باليد، ثم تنقية البذور لتُعبأ أخيرًا في أكياس محكمة الإغلاق، حيث يبلغ إنتاج المنطقة أكثر من 6,422,000 كيلوغرام سنويًا، ما يعكس حجم هذا الإرث الزراعي وأهميته الاقتصادية.

 ويشتهر السمسم الجازاني بنقاوته واحتوائه على زيوت طبيعية غنية، يُستخلص منها زيت "السليط" الشهير، المستخدم في الطهي والعلاج على حدٍّ سواء.

 ويتم استخراج الزيت تقليديًا عبر معاصر مصنوعة من سيقان الأشجار العملاقة على شكل إناء مخروطي يُعرف باسم "العود"، حيث توضع البذور وتُضاف كميات مناسبة من الماء، ثم تُحرك بواسطة "القطب" في حركة دائرية يديرها الجمل لساعات طويلة قبل تصفيته، وقد تطورت الصناعة مؤخرًا باستخدام الميكنة الحديثة لتلبية احتياجات السوق.

 وعرف أهالي جازان منذ القدم فوائد بذور السمسم، فالنوع الداكن منها يُعّد أفضل لعلاج بعض الأمراض، مثل مشاكل الكبد والدوخة، وزيادة إدرار حليب الأم المرضع، إلى جانب فوائده الجلدية، وتحسين الهضم، وتقوية النظر وصحة الشعر، كما يُستخدم زيت السمسم في تحضير أكلات تقليدية متنوعة، أبرزها "مكشن السمك"، وأنواع متعددة من الإيدامات والسلطات والحلويات، لما يضفيه من نكهة غنية وقيمة غذائية عالية، كما يدخل في بعض الصناعات التحويلية المحلية.

 ويبقى السمسم في جازان أكثر من مجرد محصول زراعي، فهو حكاية متجددة مع كل موسم، يرويها المزارعون عن أرض سخية تهدي للعالم عبق التراث وطعم الأصالة، ممزوجًا بذكريات الجدود وحكايات الأجيال، ليظل رمزًا للتراث الزراعي الجازاني و"ذهب الأرض الأبيض".