المقالات

نصحية بجمل

نصحية بجمل

✍️ ملهي شراحيلي

خلال الأسبوع الماضي، وبينما كانت الأنظار تتجه صوب اليونان، التي تعرضت لإعصار دانيال، باغت العالم زلزال المغرب، الذي أودى بحياة الآلاف وشرد الملايين.

ولم تمضِ سوى سويعات على تلك المأساة، حتى وصل ذات الإعصار الذي ضرب اليونان، إلى شواطئ ليبيا محملاً بكميات هائلة من الأمطار، تسوقه رياح عاتية وشواهق مطرية، دمّرت "درنة" وقضت على الآلاف من أهلها، وحملت فيضاناته بيوتاً بمن فيها، ومركبات وجسور إلى البحر.

إن المأساة الحقيقية لا تكمن في حجم الخسائر المادية والبشرية التي خلَّفها إعصار دانيال فقط، وإنما تكمن في هشاشة البنية التحتية لتلك المدينة المكلومة، وتقاعس الجهات المسؤلة عن القيام بدورها قبل وأثناء الكارثة.

إن قصة درنة الليبية تذكرني بقصة:

نصيحة بجمل، تلك القصة العربية، التي يكاد يعرفها كل العرب، ولكن لايعمل بها إلا القليل منهم.

يُحكى أن شابّاً سافر للبحث عن عمل، وفي رحلته التقى بصاحب إبل في الصحراء، فاتفق معه على أن يرعى له تلك الإبل لمدة عام، على أن يعطيه جملاً.

وبعد أن أمضى الشاب عاماً جاء إليه صاحب الإبل، وسأله:

هل تريد جملاً أم أعطيك نصيحة؟

فقال الشاب: بل أريد نصيحة. 

فقال له صاحب الإبل: إحذر من أن تنام في وادياً ولو كان له عشرين سنة لم يسل فيه سيل.

ثم اتفقا من جديد أن يرعى الإبل لمدة عام مقابل جمل..

بعد عام، أخذ الشاب جمله، وذهب إلى إحدى القرى فأجّره بمقابل، وجمع ما استطاع أن يحمله جمله، وانتظر قافلةً لكي يأمن بهم في سفره عائداً إلى أهله...

وفي طريق العودة رأى أصحاب القافلة أن يناموا ويريّحوا جمالهم .. ، ولكن الشاب استغرب عن اختيارهم لمكان راحتهم ونومهم، قائلاً لهم : كيف لكم أن تناموا في هذا المكان وأنتم تعلمون أنه وادي!!.

فردّوا عليه بأن المكان مريح، ولايوجد ما يدعو للخوف، فلا مطر ولا حتى غيوم!!!.

ولكن الشاب أصر على الخروج من الوادي عملاً بنصيحة صاحب الإبل، فقد أمضى من عمره عاماً ودفع جملاً في تلك النصيحة، فما كان منه إلا أن أخذ بزمام جمله، وجرّه إلى ضفاف الوادي، على مقربة من القافلة...

وما إن غط الشاب في النوم، إلا وأفاقته جلَبَة وصُراخ أصحاب القافلة، فقد داهمهم سيلاً عرمرماً، أخذ بعضهم، وأمتعتهم وجِمالهم، ولم ينجُ منهم بنفسه إلا القليل.!

هذه النصيحة التي أنقذت الشاب وجمله ومؤونته، يحتاجها الآلاف إن لم يكن الملايين من سكان بعض القرى والمدن، الذين استوطنوا بطون الأودية، جهلاً منهم أو تجاهلاً، واطمأنوا بطول المدة، وتناسوا أن السيل لابد وأن يعود لمجراه وإن طال الزمن.

والمسؤلية لاتقع على عاتق الأفراد فحسب، بل وعلى الدول والحكومات ومؤسساتها تقع المسؤلية، لاسيما الأمانات والبلديات والجهات المسؤلة عن تخطيط المدن.

إن التخطيط الحضري للمدن، وتحرير مجاري الأودية، ليس رفاهية حضارية، بل حاجة ملحّة، ومطلب وطني قبل أن يكون دليلاً على التطور العمراني والتمدن.

لقد شكل إعصار دانيال فاجعة، بكل ماتعنيه الكلمة من معنى، ليس لليبيا وحدها بل للعالم أجمع، فقد طُمرت أجزاءً واسعة من مدينة درنة بالطين والطمي، الذي حملته السيول الهادرة المنحدرة من الجبال المحيطة بالمدينة، تلك السيول التي جرفت أمامها جسوراً متهالكة، ومنازلاً كانت على ضفاف الوادي.

 

إذا كان الفلكيون مجمعون على أن إعصار دانيال، لن يكون آخر الأعاصير، فأنا أجزم أن مدينة درنة الليبية لن تكون آخر مدينة تتعرض لكارثة تدميرية، ليس بسبب الأمطار والسيول، وإنما بسبب البناء والسكن في مجاري الأودية، فكم في الوطن العربي، بل والعالم، من مدن ساحلية، وأخرى داخلية، تعاني من هشاشة البنية التحتية، ناهيك عن افتقادها لأبسط مقومات السلامة المدنية، واعتدائها على مجاري الأودية.

إن ماحدث في درنة، يستحق من الشعوب والحكومات إعادة النظر في التخطيط الحضري للمدن، وتفعيل الرصد والإنذار المبكر للكوارث الطبيعية.

لقد كشف إعصار دانيال، فشل الحكومة الليبة، رغم ماتملك من إمكانيات، في إدارة الأزمة والتعامل معها بجدية، فالإعصار لم يأتِ فجأة، وطريق الإعصار كان واضحاً، وصور الأقمار الاصطناعية والمواقع الفلكية العربية منها والعالمية كانت قد حذّرت منه، ولكن التعامل معه من قبل السلطات في ليبيا لم يكن بحجم دانيال، فكانت الفاجعة.

إن الإخلاء القسري، لسكان الأحياء المنتشرة في وادي درنة كانت كفيلة بتفادي الكارثة أو على الأقل جزء منها، ولكن هذا لم يحدث!.

والأغرب من هذا أن أغلب دول العالم تتعرض بشكل سنوي للأعاصير والفيضانات، ولكن الآثار لا تصل إلى ما حدث في درنة مؤخراً، والسبب بلا شك ليس في قوة الإعصار وحجمه، وإنما في هشاشة الوضع في درنة، وضعف الإجراءات إن لم يكن انعدامها، وافتقار الشعب للوعي بكيفية التعامل مع مثل هذه الأحداث.

إن حادثة مثل حادثة درنة، يجب أن لا تحدث في الوقت الحاضر، لاسيما في ظل وجود التقنيات العلمية المتطورة الحديثة، وإن تكرارها في مدن أخرى إن حدث لاقدر الله، لايدل إلا على عدم المبالاة بأرواح الأبرياء.

لقد بات من المسلمات أن الاحتباس الحراري، وما ينتج عنه من تطرف مناخي، ليس بالأمر الطارئ، ولكنه يحتاج إلى تعامل بجدية ومسؤلية لاسيما من قبل الجهات الحكومية في الدول، ورفع مستوى الوعي الشعبي بمثل هذه الظواهر، للتعامل معها بطرق إيجابية.

فالأعاصير والفيضانات وحتى الزلازل والبراكين، يمكن تلافي أضرارها وتخفيف آثارها، ومنع تكرارها، بالوعي المجتمعي، من خلال تأسيس مراصد فلكية، ومعاهد علمية، فقط متى وجدت إرادة وطنية وقيادة تتحلى بالمسؤلية.