منذ زمن بعيد، رافقتُ صاحبي إلى السوق لشراء احتياجاته من الملابس الداخلية. دخلنا إلى أحد المحال التجارية المتخصصة، فاستقبلنا بائعًا يمنيًا في الخمسينيَّات من العمر مبادرًا بسؤال صاحبي: "منتجات أي شركة تريد؟"، فأجابه بنبرة واثقة: "أريد أن أرى البضاعة أولًا وأعاينها بنفسي."
ظهرت على البائع علامات التعجب والاستياء، خاصةً أن شركات الملابس الرجالية معروفة، وعادةً ما يختار الزبون ما يُناسبه بناءً على الجودة والسعر. ولكن صاحبي لم يكترث للأمر، وبقي مُصرًا على طلبه، وكرر كلامه مرة أخرى. قلت لك: "أريد أن أُعاين الملابس أولًا."
شرع البائع في عرض ما لديه من بضائع لشركات مختلفة، وبدأ صاحبي بمعاينتها وفحصها الواحدة تلو الأخرى، كأنه يبحث عن كنزٍ مفقود أو كأنه يختبر مجوهرات ثمينة إن كانت أصلية أو مغشوشة، وهو يُهمهم بكلمات غير واضحة، ولكن يُفهم منها عدم الرضا. بعد معاينة جميع "الماركات" المتاحة، لم يتخذ قرارًا لشراء أي منها، ما جعل البائع يسأله بتعجب: "أي نوع تريده الآن".
سكت صاحبي للحظات، محتارًا، لا يعرف بماذا يُجيب، ثم بدأ بشرح أسباب حيرته ومبرراتها ببيان تفصيلي مُمل، مُستعرضًا عيوب كل الأنواع ومساوئها. لكن الصدمة كانت تنتظره بعد ذلك، حيث رد عليه البائع بلهجته اليمنية: "يبدو أنك تتعب في حياتك كثيرًا"!
تفاجأ صاحبي من الكلام، ووجه نظره نحوي ثم وجهه إلى البائع وهو يهز رأسه بتعجب مبينًا عدم فهمه مغزى كلامه. لكن البائع بقي صامتًا ولم يُعقب. حينها، واجهه صاحبي متسائلًا: "ماذا تقصد؟ وما علاقة كلامي عن الملابس الداخلية بحياتي الشخصية؟". رد البائع بكل هدوء ولُطف، بأسلوب الناصح المشفق: "إذا كان هذا القرار بسيطًا وروتينيًا، وتُخصص له كل هذا الوقت الطويل، فكيف ستتعامل مع القرارات الصعبة والمصيرية التي قد تؤثر على سير حياتك؟!".
أثار هذا الكلام غضب صاحبي وانزعاجه، فغادر المحل مباشرةً دون أي تعليق، كأنه أراد أن يُثبت قدرته على اتخاذ قرارات مصيرية سريعة! وأما أنا، فلم أتمالك نفسي من الضحك، فقد أعجبت بقدرة هذا الرجل على تحليل شخصيته بشكل دقيق ومذهل من دون سابق معرفة.
لم تنتهِ القصة عند هذا الحد، بل هنا بدأت!
بعد فترة انقطاع طويلة، كانت تردني بين الفينة والأخرى أخبارًا مأساوية عن أوضاعه، وكل ذلك يعود إلى طريقة تفكيره وسوء تصرفاته التي تؤثر سلبًا على كل جوانب حياته، سواء كانت شخصية، أو عائلية، أو مهنية، وكلما سُمعت عنه شيئًا من هذا القبيل، عادت بي الذاكرة إلى هذا الموقف. يبدو أن البائع اليمني لم يكتفِ بتحليل شخصيته في تلك اللحظة فحسب، بل إنه تنبأ بمصيره المستقبلي أيضًا!
في إحدى المرات التقيته شخصيًا، وحدثني بشكل مباشر عن بعض تحدياته والصعوبات التي يُواجهها في حياته، فذكرته بهذا الموقف. لكنه تظاهر بعدم التذكر، بل إنه نفى حصوله نفيًا قاطعًا، وكأنه أراد بذلك التنكر لجذور المشكلات التي يُعاني منها منذ زمن. وأحمد الله كثيرًا على ذلك؛ لكيلا يشعر بالاستياء حينما يعلم عن نشري لهذه القصة الطريفة.
إنها ليس مجرد قصة عابرة، بل هي درسٌ عميق في التحليل النفسي، درسٌ يُعلمنا كيف يمكن أن نفهم طبيعة البشر من خلال تصرفاتهم، وكيف تكشف تفاصيل صغيرة -قد تبدو تافهة- عما في أعماق شخصية الإنسان، كاشفةً عن تحديات حاضره تارة، وخفايا مستقبله تارة أخرى.
بقلم الكاتب / سلمان المعيوف
salmauof_moh22
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات