المقالات

فضفضة روحية 

فضفضة روحية 

✍️ ملهي شراحيلي

 

إذا أتفقنا أن الإنسان في تكوينه مكون من ثلاثة أجزاء رئيسة، وهي:

الروح

البدن 

والنفس 

ويمكن وصف تلك المكونات من خلال تخيلها على شكل: 

الروح تمثّلها السماء 

البدن تمثّله الأرض 

والنفس يمثلها الأفق. وهو النقطة الفاصلة بين السماء والأرض. 

 والأفق لايمكن وصفه بأنه من السماء ولا من الأرض، وهو في حقيقة الأمر غير موجود!.

فهل سمعت أن شخصاً ذهب إلى الأفق؟

أو هل تستطيع أنت أن تصل إلى الأفق؟

رغم أنك تراه. 

وبما أن الأفق يأخذ من صفات السماء ومن صفات الأرض، كذلك النفس فإن فيها من الروح وفيها من البدن. 

فالأنا الدنيا كما لدى فرويد، هي أقرب للخصائص الجسدية وفيها ومنها تنشأ الحاجات الأساسية للبقاء، بينما الأنا العليا فيها من سمات الروح ولذلك، تتسم بتحقيق أشياء ساميه ورفيعه مثل تقدير الذات وتحقيق الذات.

وعلى هذا فإن النفس لايمكن التعامل معها ومعرفتها إلا من خلال الروح والجسد معاً، وهي بالضبط كما الأفق في وجوديتها.

إن الطفل عند ولادته، يولد وبه روح وله جسد بالطبع، وعندما يبدأ جسده يستشعر محيطه الخارجي لحظه خروجه من رحم أمه، يبدأ يستخدم إمكانياته الجسدية كالصراخ والبكاء للتعبير عن احتياجاته الجسدية كالجوع والحرارة أو البرودة ونحوها. 

ثم مع نمو جسده تبدأ احتياجاته تزيد، ويبدأ يستخدم جسده في تأمين تلك الاحتياجات، وهكذا يبدأ في تشكيل نفسه بنفسه من خلال احتياجاته وتفاعل محيطه الخارجي مع إشباع أو حرمان تلك الاحتياجات.

ومع كل مرحلة نمو جسدي تتوسع لدى الطفل أساليب وقدرات تمكّنه من إشباع المزيد من الاحتياجات، فحين يبدأ في استخدام عينيه، فإنه يكتشف أن لديه قدرات جديدة لجذب الإنتباه، وكذلك حين يبدأ الزحف والمشي، فإنه يكتشف قدرات أكبر مما يسمح له بمكافات أكثر مما يعني تلبية احتاجاته واشباع رغباته، بطرق جديدة.

 فإذا ما بدأ في الكلام فإنه يكتشف فرصا أكثر وأكبر من قبل، وهكذا حتى يشيخ ويهرم.

ونظراً لأنه يمتلك قدرات عقلية فإنه يستطيع أن يحتفظ (بدون وعي منه) أو بوعي بذاكرة لاشعورية وأخرى شعورية تسمح له باستحضار تلك الخبرات وإعادة استخدامها فيما يوفر له من احتياجاته الجسدية.

مع مرور الزمن تتكون لدى الطفل مايسمّى بالنفس، وهي في الأصل ليست عضواً جسدياً وإنما مجموعة من الخبرات والتجارب مضافاً إليها مكتسبات لغوية، وحركية، تطورت في ذاكرته وترسّخت مع التكرار لتكوّن شخصيته.

والسؤال هنا:

ماهو دور الروح فيما سبق؟

وهل الروح تنمو كما ينمو الجسد؟

إن الروح في حقيقتها نفحه إلاهية، وهبة ربانية، لايمكن معرفتها على حقيقتها، ولا وصف ماهيتها، ولكن وكما قيل:

تُعرف الأشياء بأضدادها، فالأموات ليس فيهم أرواح، وهذا ما يميز الجسد عن الجثة الهامدة.

 إن الروح هي الحياة، فإذا ذهبت أصبح الجسد ميتاً، فالأعضاء التي يتكون منها جسد الطفل، لو لم تكن بها روح، لما استطاعت أن تعمل بتناغم وانسجام فيما بينها، وبما أن هذه الروح هي التي بها استطاع هذا الطفل أن ينمو ويوفر احتاجاته الجسدية، فإنه في مراحل متقدمة من عمره، بعد أن تتحقق احتياجاته الجسدية، يبدأ في تحقيق ذاته، وهي بالمناسبة مرحلة نمو لاتقل أهمية عن مرحلة الطفولة، وإذا كان أغلب البشر يتيهون في مرحلة الطفولة، بحثا عن تحقيق احتياجاتهم الجسدية، ويظلون هناك طيلة حياتهم، فنسبة كبيرة ممن يجتازون تلك المرحلة، يعلقون في مرحلة تقدير ذواتهم، قبل أن ينتقلون إلى أعلى مرحلة، لايصلها إلا قلة قليلة من البشر، وهي مرحلة الكمال والتمام وهي تقدير الخلّاق العليم، عن طريق عبادته، من خلال تقدير ذواتهم وتقدير الآخرين.

وأعني بالوصول هنا، وصول ذاتي، وليس عن طريق التقليد أو المحاكاة.

وهي المرحلة التي يرى الإنسان فيها ربّه، فإن لم يتمكن من رؤيته، استشعر أن ربّه يراه.

هذا جانب مما يخص دور الروح، أما بالنسبة للسؤال:

هل الروح تنمو كما ينمو الجسد؟

فالجواب بالطبع لا، وهي مع ذلك لا تسقم ولا تهرم، ولا تمرض، ولا تموت، ولا تنطبق عليها أي صفة من صفات الجسد، لأنها ببساطة جزء من الله، ألم يقل سبحانه:

ونفخت فيه من روحي؟

وبما أن خصائص الروح تختلف كلياً عن خصائص الجسد، وبما أن هذه الروح في الجسد، فقد اكسبته ليس الحياة فحسب، بل وشيءٌ منها!.

فالأعضاء الهامة التي تحافظ على بقاء الجسد كالعقل والقلب وغيرها من الأعضاء تظل تعمل منذ تكوّنها في رحم الأم حتى تخرج منها الروح، ولذلك في أثناء النوم مثلاً أو الإعاقات الجسدية الجسيمة تظل تلك الأعضاء تعمل طالما بقيت الروح في الجسد، وهي بهذا تتناغم مع الروح في وجودها. 

 

إن وجود الروح في الجسد هو ما جعل هذا الجسد، يبحث عن طُرق لتوفير احتياجاته، ثم تحقيق ذاته، ثم أوصله إلى تقدير ذاته، ثم تقدير خالقه بطاعته، وتقدير الآخرين تقربا لخالقه، ويشمل الآخرين بني جنسه وكل ماحوله من مخلوقات الله. 

ومع أن سائر العلوم البشرية لم تُثبِت إلى الآن أن للروح تأثيراً مباشراً على أي عضو من أعضاء الجسد، إلا أن العقل والمنطق السليم يقضي أن لها تأثيرات، لسبب بسيط وهو وجودها!.

فهل يُعقل أن يكون جسداً تدبُّ الروحُ فيه، بل وفي كل ذرة من ذراته، ولا يكون لتلك الروح أثر سوى إبقائه على قيد الحياة!!؟.

في رأيي الشخصي المتواضع أن التفاعل الذي يحدث بين الروح والجسد يصعب على الكثير إدراكه، ناهيك عن الإحساس به أو استشعاره، ولذلك يصعب عليهم استيعابه.

إن من المحسوسات والمُدركات، لو غرست في جسدٍ قطعة نحاس أو شوكه، لتفاعل معها ذلك الجسد، فكيف لايكون للروح تأثيراً إلا بخروجها من الجسد!!.؟

ومن وجهة نظري الشخصية أن للروح تأثيرات جمة على الجسد والنفس معاً، ومن تلك التأثيرات وأهمها، ذلك التفاعل الذي به يمكن الاستدلال على تأثير الروح على الجسد، وهو التفكير!!.

صحيح أن التفكير يحصل في عقل الإنسان، نتيجة تفاعل ذلك العضو مع باقي أعضاء الجسد والمحيط الخارجي، إلا أنه لولا وجود الروح لما حدث ذلك للعقل، ولما تميز الإنسان بالتفكير عن غيره من المخلوقات التي لديها عقول أكبر حجما وأكثر تعقيداً من عقل الإنسان. 

إن وجود الروح في الجسد ليس فقط لإبقائه على قيد الحياة، وإنما لتحقيق الحياة التي لأجلها وجد.

لا أريد أن أصبغ نصي هذا بآيات كريمة وأحاديث شريفة، لكي لا أجبرك أخي القارئ الكريم على الإقتناع برأيي الشخصي فيما يخص تأثير الروح على البدن والنفس، ولكن سوف أعرض عليك آرائي بدون أدلة قطعية ولا آراء فلسفية.

إن الإنسان منذ اللحظة التي تدب الروح في أعضائه، وإلى آخر لحظة من حياته، تتحكم فيه ثلاثة مسارات لا رابع لها:

الروح 

الجسد 

النفس 

وكما ذكرت سابقاً أن النفس ليست سوى مزيج مركب من الغرائز الجسدية مضافاً إليها مكتسبات لغوية وحركية وشيء من العلاقات الإجتماعية التي تنمي بعض السلوكيات والممارسات الإنسانية، يتحكم التفكير فيها، ويوجهها نحو أحد المسيطرين الرئيسين الروح والجسد!!.

فإذا تغلب الجسد واحتياجاته على تفكير الإنسان، كانت نفسه شهوانية جسدية ليس للروح فيها أي أهمية سوى الحياة الدنيوية.

أما إذا أُشبعت الاحتياجات الجسدية للطفل واكتسب معلومات ومعارف مجتمعية ومهارات لغوية وحسابية وغيرها من الأنشطة الجسدية التي من خلالها يحقق ذاته، فإن روحه تكون المسيطرة عليه أكثر من جسده، وهو بهذا يرقى إلى الكمال الإنساني والرقي البشري، بغض النظر عن جنسه ولونه ومكان إقامته وموطنه.

إن هذا المزيج الفريد، المكون من الروح والجسد، مع مابينهما من تنافر، وما فيهما من تناقض، وما لهما من خصائص، قد يحصل بينهما تآلف، وقد يحصل بينهما تنافر وتخالف، وبغض النظر عما قد يحصل بينهما، سواءً تآلفا أو تخالفا، إلا أنهما سوف ينتجان نفساً !!.

ثم إن هذه النفس التي تعتبر ذاتها كياناً مستقلاً، ورمزاً منفرداً، مع أنها حقيقةً ليست سوى انعكاساً لالتقاء الروح والجسد الذان شكّلاها، ولذلك تظل في صراع معهما، هذا الصراع ينعكس على شكلها وجوهرها، ويطغى على خصائصها، فيظهر من خلال أفكارها، وينصبغ على سلوكها، ويتجسد في أفعالها.

ليس هذا فحسب، بل ويجذب لها ما يشاكلها جوهراً، ويمثّلهاً باطناً، من خلال الأشخاص والأحداث التي تلتقيها في حياتها.

إن الصراع والخلاف الذي يحدث بين الروح والجسد، ينعكس على النفس أولاً، ثم يتمدد ليشمل الكون المحيط بما فيه ومن فيه لتلك النفس. 

إن التآلف إذا ماحصل بين الروح والجسد، نتجت عنه نفساً زكية، تعيش راضيةً وتموت مرضّية، وليست الأمراض الجسدية، والعاهات النفسية إلا انعكاساً واضحاً للخلاف الحاصل بين الروح والجسد، وتجسيد واقعي للخلاف بين النفس في ذاتها، مع روحها وجسدها!.

 

إن المعُضلة الأساسية في إنتاج نفس هنيّة، يعتمد في الدرجة الأولى على تلك النفس، ولكن ذلك غالباً لا يتأتى إلا بعد سنين من الزمن، حينها تكون تلك النفس قد اعتادت على مابها من خير أو شر، ولذلك فإن التنشئة المجتمعية والتربية الأسرية تساعد الشخص في اكتشاف الخلافات الجوهرية بين روحه وجسده، وبين نفسه وروحه، و بين نفسه وجسده، باكراً فيحصل تدارك الأمر وإصلاح النفس وتوجيهها ليحصل التوافق بين الروح والجسد، وبين النفس والروح، وبين النفس والجسد.

قال تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:

حَرِّض بنيكَ عَلى الآدابِ في الصِغَرِ

كَيما تَقَرَّ بِهِم عَيناكَ في الكِبَرِ

وَإِنَّما مَثَلُ الآدابِ تَجمَعُها

في عِنفُوانِ الصِبا كَالنَقشِ في الحَجَرِ

هِيَ الكُنوزُ الَّتي تَنمو ذَخائِرُها

وَلا يُخافَ عَلَيها حادِثَ الغِيَرِ

إِنَّ الأَديبَ إِذا زَلَّت بِهِ قَدَمٌ

يَهوي إِلى فَرُشِ الديباجِ وَالسُرُرِ

الناسُ إِثنانِ ذو عِلمٍ وَمُستَمِعٍ

واعٍ وَسائِرُهُم كَاللّغوِ وَالعَكَرِ.