المقالات

النصيحة في زمن التكنولوجيا الحديثة

النصيحة في زمن التكنولوجيا الحديثة

✍🏼 ملهي شراحيلي

قال أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ناصحاً إبنه الحسين، رضي الله عنه، في قصيده من أروع قصائد الحكمة، وسوف أوردها لاحقا بمشيئة الله تعالى:

ولقد نصحتُك إن قبلتَ نصيحتي

والنُّصْحُ أَرْخَصُ ما يُبَاعُ وَيُوْهَبُ.

والشطر الأخير من البيت، أعني قوله:

(والنُّصْحُ أَرْخَصُ ما يُبَاعُ وَيُوْهَبُ)

يصف حالنا اليوم، وكأنه بين ظهرانينا، لاسيما وأن التكنلوجيا الحديثة، من مواقع التواصل الإجتماعي، والقنوات التلفزيونية سواءً الإخبارية منها أو الثقافية مليئة بالنصائح وفي شتى المجالات ومختلف الإهتمامات.

ولو تتبعت النصائح الطبية، (على سبيل المثال)، لوجدت آلاف النصائح إن لم يكن الملايين منها، لدرجة أن بعضها يناقض بعض!!، وهلم جر في باقي مجالات الحياة، من نصائح تربوية، وأخرى زوجية، وزراعية، وهندسية، ناهيك عن نصائح التنمية البشرية، وتطوير الذات، وغيرها الكثير من المجالات....

وما ذاك إلا لرخصها وسهولة صناعتها كما قال علي، رضي الله عنه:

والنُّصْحُ أَرْخَصُ ما يُبَاعُ وَيُوْهَبُ.

ومما لاشك فيه أن هذه الطفرة النصائحية، إن صح التعبير، نتيجة طبيعية للطفرة التكنلوجية التي يعيشها العالم اليوم، وهي بلاشك منها الغث والسمين، والحصيف من انتقى منها الثمين وعمل بها في القليل. 

وإذا كانت النصائح منها الغث والسمين، فإن الناصحين كذلك، ورحم الله الشاعر بشّار بن بُرد، حين قال:

وَما كُلُّ ذي رَأيٍ بِمُؤتيكَ نُصحَهُ

وَلا كُلُّ مُؤتٍ نُصحَهُ بِلَبيبِ.

او كما قال الشاعر الأموي، عبدالله بن همام السلولي:

ألا ربَّ ذي نصحٍ وقد تستغشه

ومن جاهدٍ في الغشِّ يُحسبُ ناصحاً.

وأجمل من هذا وأعظم، ما قصّه الله علينا، من قصة أبليس، وأبونا آدم وأمّنا حواء، في قوله سبحانه وتعالى:

{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.

 

 

ولذلك فكما ينبغي فحص النصيحة والتدقيق فيها قبل قبولها والعمل بمقتضاها، فإن النظر بتمعن للناصح لايقل أهمية، لاسيما وأن أصل كلمة نُصح التي جاءت منها النصيحة، تعني خَلَصَ.!!

أي أن النصيحة لاتأتي إلا من مخلص، وعليه فإن كل مخلص ناصح، وليس كل ناصحٍ مخلص.

جاء في معجم لسان العرب:

نَصَحَ الشيءُ : خَلَصَ .

والناصحُ : الخالص من العسل وغيره .

وكل شيءٍ خَلَصَ ، فقد نَصَحَ ؛ قال ساعدةُ بن جُؤَيَّةَ الهذلي يصف رجلاً مزج عسلاً صافياً بماءٍ حتى تفرق فيه :

 فأَزالَ مُفْرِطَها بأَبيضَ ناصِحٍ 

 من ماءِ أَلْهابٍ ، بهنَّ التَّأْلَبُ.

 وقال أَبو عمرو : الناصح الناصع في بيت ساعدة ، قال : وقال النضر أَراد أَنه فرّق به خالصها ورديئها بأَبيض مُفْرِطٍ أَي بماء غدير مملوء .

والنُّصْح : نقيض الغِشّ مشتق منه نَصَحه وله نُصْحاً ونَصِيحة ونَصاحة ونِصاحة ونَصاحِيةً ونَصْحاً ، وهو باللام أَفصح ؛ قال الله تعالى : وأَنْصَحُ لكم .

ويقال : نَصَحْتُ له نَصيحتي نُصوحاً أَي أَخْلَصْتُ وصَدَقْتُ ، والاسم النصيحة .

والنصيحُ : الناصح ، وقوم نُصَحاء ؛ وقال النابغة الذبياني :

 نَصَحْتُ بني عَوْفٍ فلم يَتَقَبَّلوا 

 رَسُولي ، ولم تَنْجَحْ لديهم وَسائِلي ويقال : انْتَصَحْتُ فلاناً وهو ضدّ اغْتَشَشْتُه ؛ ومنه قوله :

 أَلا رُبَّ من تَغْتَشُّه لك ناصِحٌ 

 ومُنْتَصِحٍ بادٍ عليك غَوائِلُه.

 تَغْتَشُّه : تَعْتَدُّه غاشّاً لك.

والتَّنَصُّح : كثرة النُّصْحِ ؛ ومنه قول أَكْثَمَ بن صَيْفِيٍّ : إِياكم وكثرةَ التَّنَصُّح فإِنه يورث التُّهَمَة .

والتوبة النَّصُوح : الخالصة ، وقيل : هي أَن لا يرجع العبد إِلى ما تاب عنه ؛ قال الله عز وجل : توبةً نَصُوحاً.

 

ونقيض النصح، الغش، وجاء في القاموس من أضداد نُصْح (اسم):

إخلالٌ , إفسادٌ , إِعْوِجَاجٌ , احتيالٌ , انحراف , تَهَتُّكٌ , جُنُوحٌ , خداعٌ , ضَلالٌ , غِشٌّ , غِوَايَةٌ , مَضَلَّةٌ , مَكْرٌ , نصبٌ , الغِش, الخَديعة.

أضداد نَصَح (فعل):

أَغْوَى ، إِحْتَالَ ، جَهَّلَ ، خَدَعَ ، ضَلَّلَ ، ضَيَّعَ ، غَشَّ ، مَكَرَ ، غَشّ ، غَرّ ، خَدَعَهُ.

قال صفي الدين الحلي:

اِنصَح صَديقَكَ مَرَّتَينِ

فَإِن عَصاكَ فَغُشَّهُ

لَو ظَنَّ صِدقَكَ ما عَصى

وَأَبى وَأَظهَرَ فُحشَهُ.

 

 

ومن جميل قصص النصائح، يُحكى أنه ‏‎عندما قرر المنصور قتل أبي مسلم الخرساني، كتب إليه عيسى بن علي، ينصحه ويدعوه للتريث، قائلاً:

إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا تدبّرٍ

فإنّ فساد الرأي أن تتعجلا

فردّ عليه المنصور :

إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ

فإن فسـاد الرأي أن تتـرددا

ولا تمهل الأعـداء يوما بقدرةٍ

وبادرهُمُ أنْ يملكوا مثلها غدا.

 

والمشورة أحد أبواب النصائح، فعندما تستشير شخص في أمر ما، فإنك تستنصحه، أي تطلب منه النصيحة على شكل مشورة.

‏قال الجاحظ: أحسن ما قيل في المشورة قول بشّار بن بُرد:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

 بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة

 فإن الخوافي قوة للقوادم

وقوله:

ولا كل ذي رأي بمؤتيك نصحه

ولا كل مؤت نصحه بلبيب

ولكن إذا ما استجمعا عند واحد

 فحق له من طاعة بنصيب.

 

ومن أدب النصيحة، لاسيما عند الأولين، أن تكون سراً، لا علانية، ولا إعلانية كما هو الحاصل في وقتنا الحاضر، من خلال وسائل التواصل الإجتماعي.

قال أحد الحُكماء:

و‏النصيحة لا تكون علانية، وإنما تكون سرًّا، وإبداؤها علانية هو في حقيقته توبيخ وتعيير.

وقال ابن حزم: "إذا نصحتَ، فانصح سرًّا، لا جهرًا، وبتعريض، لا تصريح؛ إلَّا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلا بُد من التَّصريح، ولا تنصح على شرط القْبُول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم، لا ناصح..".

ولذا قال الإمام الشافعي، رحمه الله:

تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي

وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه

فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ

مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه

وَإِن خالَفتَني وَعَصِيتَ قَولي

فَلا تَجزَع إِذا لَم تُعطَ طاعَه.

والأسوء من النصيحة العلنية، من وجهة نظري الشخصية، هي النطيحة التي تأتي على شكل نصيحة، وهي أحد أنواع النميمة ولكنها مغلفة بعبارات منمقة يحسبها الجاهل نصيحة، بينما أصلها نكاية أو تحريض، وغالباً ماينتشر هذا النوع من النصائح، في بيئات العمل، لاسيما تلك البيئات المملوءة بالمشاحنات والتنافس على سفاسف الأمور وسواقطها.

وأما النصائح الأبوية، سواءً جاءت من الأم أو الأب، فهي بلاشك، أصدق النصائح وأخلصها، والسعيد من نفذها لأن تركها فسوق، ورفضها عقوق.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ناصحاً إبنه الحسين:

أَحُسَينُ إِنّي واعِظٌ وَمؤَدِّبٌ

فَاِفهَم فَأَنتَ العاقِلُ المُتَأَدِّبُ

وَاِحفَظ وَصِيَّةَ وَالِدٍ مُتَحَنِّنٍ

يَغذوكَ بالآدابِ كَيلا تُعطَبُ

أَبُنَيَّ إِنَّ الرِزقَ مَكفولٌ بِهِ

فَعَلَيكَ بالإِجمالِ فيما تَطلُبُ

لا تَجعَلَنَّ المالَ كَسبَكَ مُفرَداً

وَتُقى إلَهَكَ فَاِجعَلَن ما تَكسِبُ

كَفِلَ الإِلَهُ بِرِزقِ كُلِ بَرِيَّةٍ

وَالمالُ عارِيَةٌ تَجيءُ وَتَذهَبُ

وَالرِزقُ أَسرَعُ مِن تَلَفُّتِ ناظِرٍ

سَبَباً إِلى الإِنسانِ حينَ يُسَبَّبُ

وَمِنَ السُيولِ إِلى مَقَرِّ قَرارِها

وَالطَيرُ لِلأَوكارِ حينَ تُصَوِّبُ

أَبُنَيَّ إِنَّ الذِكرَ فيهِ مَواعِظٌ

فَمَنِ الَّذي بِعِظاتِهِ يَتَأَدَّبُ

فَاِقرَأ كِتابَ اللَهِ جَهدَكَ واِتلُهُ

فيمَن يَقومُ بِهِ هُناكَ وَيَنصَبُ

بِتَفَكُّرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ

إِنَّ المُقَرَّبَ عِندَهُ المُتَقَرِّبُ

وَاِعبُد إِلَهَكَ ذا المَعارِجِ مُخلِصاً

وَاِنصِت إِلى الأَمثالِ فيما تُضرَبُ

وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ وَعظِيَّةٍ

تَصِفُ العَذابَ فَقِف وَدَمعُكَ يُسكَبُ

يا مَن يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ بِعَدلِهِ

لا تَجعَلَنّي في الَّذينَ تُعَذِبُ

إِنّي أَبوءُ بِعَثرَتي وَخَطيئَتي

هَرَباً إِلَيكَ وَلَيسَ دونَكَ مَهرَبُ

وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ في ذِكرِها

وَصفَ الوَسيلَةِ وَالنَعيمِ المُعجِبُ

فَاِسأَل إِلَهَكَ بِالإِنابَةِ مُخلِصاً

دارُ الخُلودِ سُؤالَ مَن يَتَقَرَّبُ

وَاِجهَد لَعَلَّكَ أَن تَحِلَّ بِأَرضِها

وَتَنالَ روحَ مَساكِنَ لا تَخرَبُ

وَتَنالَ عَيشاً لا اِنقِطاعَ لِوَقتِهِ

وَتَنالَ مُلكَ كَرامَةٍ لا تُسلَبُ

بادِر هَواكَ إِذا هَمَمتَ بِصالِحٍ

خَوفَ الغَوالِبِ أَن تَجيءَ وَتُغلَبُ

وَإِذا هَمَمتَ بِسَيِّءٍ فَاِغمِض لَهُ

وَتَجَنَّبِ الأَمرَ الَّذي يُتَجَنَّبُ

وَاِخفِض جَناحَكَ لِلصَديقِ وَكُن لَهُ

كَأَبٍ عَلى أَولادِهِ يَتَحَدَّبُ

وَالضَيفُ أَكرِم ما اِستَطَعتَ جِوارَهُ

حَتّى يَعُدُّكَ وارِثاً يَتَنَسَبُ

وَاِجعَل صَديقَكَ مَن إِذا آخيتَهُ

حَفِظَ الإِخاءَ وَكانَ دونَكَ يَضرِبُ

وَاِطلُبهُمُ طَلَبَ المَريضِ شِفاءَهُ

وَدَعِ الكَذوبَ فَلَيسَ مِمَّن يُصحَبُ

وَاَحفَظ صَديقَكَ في المَواطِنِ كُلِّها

وَعَلَيكَ بِالمَرءِ الَّذي لا يَكذِبُ

وَاِقلِ الكَذوبَ وَقُربَهُ وَجِوارَهُ

إِنَّ الكَذوبَ مُلَطِّخٌ مَن يَصحَبُ

يُعطيكَ ما فَوقَ المُنى بِلِسانِهِ

وَيَروغُ مِنكَ كَما يَروغُ الثَعلَبُ

وَاِحذَر ذَوي المَلَقِ اللِئامِ فَإِنَّهُم

في النائِباتِ عَلَيكَ مِمَّن يَخطُبُ

يَسعَونَ حَولَ المَرءِ ما طَمِعوا بِهِ

وَإِذا نَبا دَهرٌ جَفَوا وَتَغَيَبوا

وَلَقَد نَصَحتُكَ إِن قَبِلتَ نَصيحَتي

وَالنُصحُ أَرخَصُ ما يُباعُ وَيوهَبُ.

MelhiSharahili@gmail.com