
: ✍🏼فلاح بن علي الزهراني
لا شك أن الإحساس أمر بديهي، أودعه الله في المخلوقات الحيَّة منها والجامدة، قد يكون من الغرابة بمكان أن تتمتع الجمادات بإحساس كغيرها من الأحياء، بل ما يدعو للعجب أن يكون لتلك الجلاميد شعور ورقة يفوق شعور البشر، ذلك بأن منها ما يتفجر ينبوع نفع وخير عميم للناس عامة في الوقت الذي تتحول فيه البشر للعتو والصلف، أو القسوة والنكران، والأدهى والأمرّ أن يتحول البعض لأداة قتل ودمار، وسفك دماء وإجرام وهلاك، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 74]
وقد نقل لنا القرآن الكريم صورا متعددة من وجدانيات تلك الجمادات التي تبدو ساكنة لا تعي ولا تستجيب؛ سواء ما كان يعبر عن انفعال أو عاطفة؛ تترجم خشوعا وذلة وخنوعا أو حبا وحنوا أو في المقابل ثورة غيظٍ وحنقٍ وكمدٍ؛ غيرةٍ أو انتقام وعذاب!!
ولأن الوصف جاء من لدن الخالق- جل وعلا- العليم بمكنونات خلقه، ليظهر لنا سرّ ما خفي علينا خبره، أو تعذر سبر غوره، أو كشف كنه، ( وما يعلمها إلا العالمون) فقد أبان- سبحانه- عن ذلك في أكثر من آية، فها هو يشير إلى خشوع الجبال وتصدعها فيما لو نزل عليها قرآنا كالذي أُنزل علينا، قال تعالى:{لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر : 21]
وهي إذ ذاك تحمل غيرة وردة فعل غاضبة، عندما يكون الأمر مدلهم لا يطاق من عظم الذنب وفداحة الجرم، كالشرك بالله أو ارتكاب أمر يخالف الفطرة السوية، كالافتراء؛ جهلا وتطاولا:
{أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا} [مريم : 91]
قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم : 90]
وكأنما تملك كبداً تتفطر عندما يتفاقم الشعور بالقهر والكمد؛ رفضاً وإنكاراً!!
أي أن الوصف يتغير تبعاً لتنوع الموقف، ليسجل حالةً من التفاعل لتلك الجمادات، لتكون هي في حكم المستجيب طوعاً، المذعن هوناً، المنقاد ليناً، بعكس البشر الذين يغلب عليهم العنت والصدود والتمنع، وذلك في معرض التقريع والتغليظ لمن فضله الله بالعقل، وكرمه بالفكر الناصع والإدراك الواعي، ليجعل العقوبة توازي الإنعام، والعذاب لقاء الجرم والقسوة والإعراض؛ عتواً وإنغلاقا لعقولهم عن أن ينصاغوا للحق، ليكون بذلك الجماد أكثر استشعارا وتفاعلا واستجابة من أولئك الجبابرة الذين يتطاولون ظلما وكِبراً!!
فها هي السماء ترِق عطفاً، تبكي ألما وحسرةً لفراق أحد أولئك العبّاد الصالحين إذا ما أنقطع أثرهم؛ إذ كانوا يعمرونها بالذكر والتسبيح وأنواع العبادات؛ من خلال مرور صحائف أعمالهم ليل نهار، كمعبر حيٍّ بين الأرض والملأ الأعلى!!
ليستبين الأمر بضده، وكأنما الأرتباط يتحول لعاطفي بين السماء والعابد؛ لتجد بعده الأسى والحزن، فيما لا تعبأ بغيره من العصاة، فلا حظَّ لهم في اهتمامها، قال تعالى:( فما بكت عليهم السموات والأرض)، أي أولئك الذين ليس لهم إتصال بالسماء؛ فلا قيمة لهم تستدعي الحزن والأسف عليهم؛ بخلاف أولئك المرتبطين بها، المتصلين عن طريقها!
كما أنه نقل صورةً أفظع وأشد تخويفا، لترقيق القلوب وإذكاء الحس البشري، مخبرا عن نار جهنم إذ تلفح وجوه الكفار والفجار؛ جزاءً وفاقا: قال تعالى (تكاد تميز من الغيظ)، أي تتقطع غيظا وانتقاماً؛ فتعصف بهم سحقاً وتحطيماً؛ لهول جرمهم وعظم ذنبهم!
كل ذلك العرض يؤكد كينونة الإحساس لدى غير البشر من المخلوقات الحيّة والجمادات، لتستشعر بحس مرهف واستجابة مطلقة، يقابله التحجج والنفور، أو الإعراض والجحود من بني البشر، كما ورد في أكثر من أية محكية لهذه المقابلة العجيبة:
{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام : 38]
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء : 44]
الأمر الذي يجعل المرء في حيرة، هل بلغ بالناس ذلك العتو والعتمة والقسوة أن يخاطبنا الرب- جل وعلا- بقولِ فظٍ غليظ على سبيل التقريع والاستهجان المغلّف بالتحدي والجبروت والقدرة الخارقة والتأكيد الجازم:
{۞ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا۞ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء : 50~51]
ولعل حنين الجذع الذي كان يخطب عليه الرسول ﷺ بعد أن استبدله بالمنبر خير دليل على الحس الكامن في تلك الجمادات، مما حدا بنبي الرحمة أن ينزل ليحتضنه ليسكن، وقال: لو لم احتضنه لحنَّ إلى يوم القيامة!
وأخيراً:
جاءت الدراسات الحديثة لتؤكد حالةً من الوعي والتذكر لدى الماء إذ يملك خاصية متفردة كونه يشكل الجزء الأكبر من تركيبة الإنسان، فهو يسمع، يستجيب، يتشكل، تبعا لما يقال له بصورة محسوسة، وذلك وفقا لما نقلته صحيفة الأهرام الصادرة يوم الأربعاء 10 من رجب 1439 هــ 28 مارس 2018 السنة 142 العدد 47959، من أن العالم الياباني رئيس معهد هادو للبحوث العلمية بطوكيو ( ميساروا إيموتو) والذي لا يدين بالإسلام أصلاً، أثبت من خلال أبحاثه أن الماء حين يسمع آيات القرآن وآذان الصلاة، و آسماء الله الحسنى، والبسملة وكلمة الإسلام لله، تتبلور بلورات الماء على شكل قطع الألماس، أو تتبلور جزيئات الماء بأشكال جميلة وصافية وبديعة، وفي المقابل وجد أن الماء حين يسمع الكلام الخبيث السلبي يتبلور ببشاعة.
إمضاءة قلم:
هل - حقاً- الجمادات تفوق البشر حساً واستجابة أكثر وأكثر! الأمر الذي يجعلنا نغير مفاهيمنا لتكون هي مثلاً أعلى، كونها مجردة من الشر، مطواعة مسخرة لا مذخرة، وأن نكف حينها عن مصطلحات غير منصفة تسيء لها وهي منها بُراء! كقول: لهم قلوب كالحجر، إذ لو كانوا كذلك لكانوا أكثر رقة وأندى مداً ووداً، ولكنهم بشراً ينطوون على الخير والشر على حدٍ سواء!!
@alzahrani_falah
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات