المقالات

«تكلّم حتى أراك» 

«تكلّم حتى أراك» 

✍🏼 ملهي شراحيلي

الكلام واحدة من أهم المميزات التي يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، وهو من أهم أدوات التواصل التي يستخدمها البشر فيما بينهم.

ولذلك فلا غرابة أن يُستخدم الكلام لتصنيف البشر والحُكم عليهم من خلال مايصدر منهم من كلام، سواءً كان هذا الكلام منطوقاً (مشافهة) أو مكتوباً.

والكلام في الحقيقة، ليس مجرد أصوات، بل أدوات تعكس مستوى وعي الإنسان وثقافته وأخلاقه، فالإنسان يختبئ وراء مظهره وصمته، والكلام هو الذي يكشف حقيقته.

قال أمير المؤمنين على بن أبى طالب، رضي الله عنه: "الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام".

ومقولة "تكلم حتى أراك" هي مقولة شهيرة للفيلسوف اليوناني سقراط، وتعني هذه المقولة أن الكلام هو مرآة تعكس شخصية الإنسان وفكره. 

فعندما يتكلم الإنسان، يظهر ما في داخله من خلال كلماته، سواء كانت أفكاره ناضجة أو سطحية، وحكمته أو جهله.

فقد يبدو شخص ما مهيباً في مظهره، لكن كلامه قد يكشف عن جهل أو عدم نضج فكري. 

وقد يكون هناك شخص يبدو متواضعاً في مظهره، لكن كلامه قد يكشف عن حكمة وعمق، ولهذا يلجأ كثير من الناس لالتزام الصمت، للإبقاء على المحافظة على مكانته وعدم إظهار حقيقته للاخرين. 

ومن جميل مايُذكر من الطرائف في هذا السياق، ما جاء في كتاب أخبار القضاة، للقاضي محمد بن خلف بن حيّان، الملقب بوكيع القاضي، [ت ٣٠٦ هـ]:

أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن القاسم بْن مهرويه قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْن طاهربن أَحْمَد الزبيري قال: كان رجل يجلس إِلَى أبي يوسف القاضي، فيطيل الصمت. فَقَالَ لَهُ أَبُو يوسف: ألا تسأل ألا تتحدث ؟! قال: بلى قَالَ: متى يفطر الصائم؟ قال: إِذَا غربت الشمس، قال: فإن لم تغرب الشمس إِلَى نصف الليل!؟!

 قال: فتبسم أَبُو يوسف، وتمثل ببيتي الخُطفي جدّ جرير:

عَجِبتُ لإِزراءِ العَيِيِّ بِنَفسِهِ

وَصَمتِ الَّذي قَد كانَ بِالقَولِ أَعلَما

وَفي الصَمتِ سَترٌ لِلعَيِيِّ وَإِنَّما

صَحيفَةُ لُبِّ المَرءِ أَن يَتَكَلَّما.

ومما يؤثر عن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه قوله :

 «أظل أهاب الرجل حتى يتكلم، فإن تكلم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي».

وبالعودة إلى مقولة سقراط، "تكلم حتى أراك"، قيل إن رجلاً جاء إلى سقراط، يتبختر في مشيته ويتباهى بجمال هيبته وأناقة مظهره، فقال له سقراط:

 «تكلم حتى أراك»، ويقصد الفيلسوف اليوناني الشهير بمقولته تلك أن قيمة الإنسان لا تكمن في مظهره الخارجي، بل فيما يحمله من أفكار ويكتنزه من معرفة يعبّر عنهما عندما يشرع في الكلام.

فإذا كنت تريد أن تعرف قدر امرئ ومدى علمه ومستوى أخلاقه، فعليك أن تصغي السمع له وتتلمس من وراء كلماته التي ينطق بها حقيقة أمره.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن سقراط، كان دقيقاً في عبارته، فقد استخدم قوله "أراك" ولم يقل "أعرفك" أو "أفهمك" فهو فعل مقصود يعنى أنت فى صمتك وسط هذه المعارك وهذه الحياة الصعبة ما لم يكن لك رأى ولم تعبر سواء بالرضا أو الغضب فأنت غير مرئى لا أحد يراك. فصوتك يعبّر عن وجودك وهو أكثر من مجرد قدرة على الحديث، فكلامك هو أنت.

وسقراط لا يدعو إلى الثرثرة لأنها نقيصة فى الإنسان وفى الوقت نفسه لا يدعو إلى "البكم" لأنه أيضا يضيع الحق الواضح البائن، لكنه يدعو للاتزان ومعرفة قدر الكلمة ففى حالة أن يدرك الإنسان أن الكلمة التى يقولها تعبّر عن شخصه وقدره فى الحياة سيقيم لها حسابا يليق بها ولا يقلل من قيمتها أو يتركها على عواهنها كحجارة ملقاة فى الطريق ولا يمنعها فى وقتها لأنها سوف تصبح ضرورة وحتمية.

ومن مأثور الحكمة العربية قولهم:

«تكلموا حتى تُعْرَفوا، فإن المرءَ مخبوءٌ تحت لسانه».

ومما يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه قوله:

"المرء مخبوء تحت طيّ لسانه، لا تحت طيلسانه".

بمعنى أنّ الإنسان من كلامه يُعرف مستوى عقله، وتفكيره، وقدراته، لا بمظهره وبما يرتديه، أو رصيده المالي، أو جاهه، أو حسبه، أو نسبه، إنّما يُعرف جوهر الإنسان عن طريق لسانه، فهو المعبّر عمّا يجول في قلب الإنسان.

 

قال يحيى بن معاذ : ” القلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرّجل حين يتكلم فإنّ لسانه يغترف لك مما في قلبه".

 

ومما يُنسب لعثمان، رضي الله عنه أنه قال : 

"ما أسرّ أحدٌ سريرةً إلا أظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه".

وفي أمثال العرب: كل إناءٍ بما فيه ينضحُ.

 

قال الشاعر الأموي، زياد الأعجم:

وَكائِن تَرى مِن صامِتٍ لَك مُعجب

زِيادَته أَو نَقصُهُ في التَّكَلُّمِ

لِسانُ الفَتى نِصفٌ وَنِصفٌ فُؤادهُ

فَلم تَبقَ إِلّا صورَةُ اللَّحمِ وَالدَّمِ.

MelhiSharahili@gmail.com