✍️ ملهي شراحيلي
إن مما ينبغي أخذه في الإعتبار، لاسيما عند مطالعة الأخبار، أو متابعة الأحداث، فإن أغلب من يصرحون لوسائل الإعلام، أو يتحدثون في مواقع التواصل الإجتماعي، والقنوات الإخبارية، حتى وإن كانوا مسؤلين، إلا أنهم في الحقيقة ليسو سوى متحدثين إعلاميين، وظيفتهم الأساسية أما تلميع صورة أنصارهم أمام متابعيهم، والنيل من خصومهم، بتسليط الضوء على سلبياتهم وتضخيم إرهاصاتهم وأخطائهم، أو أنهم مجرد إعلاميين يحاولون ملء فراغهم بالحديث لوسائل الإعلام عن أحداث هم أصلاً يستقونها من وسائل الإعلام.
ولو أخذنا على سبيل المثال، المماحكات الروسية مع أوروبا، نجد أن أغلب من يتحدثون عنها لوكالات الأنباء أما مسؤلين روس، أو أوروبيين، فالروس يبالغون في النجاحات العسكرية في أوكرانيا، ويضخمون المشاكل الأوروبية ويكبرونها، لكي يوهمون أتباعهم أن العملية العسكرية الروسية كانت في محلها.
وفي المقابل تجد الأوروبين يقزّمون المنجزات الروسية في أوكرانيا، ويضخمون الجرائم الروسية، ويبجّلون الإجراءات الأوروبية والعقوبات الغربية ضد روسيا، لكي يثبتوا لأتباعهم أن موقف أوروبا كان صحيحاً.
أما المحللين من الإعلاميين فإنهم يأخذون تصريحات المسؤولين من وسائل الإعلام طبعاً، ثم يصنعون لها عناوين رنانة، ويصفونها بعبارات جذّابة، وهم غالباً لا يعلمون عن أسباب تلك التصريحات ولا عن السياق الذي قيلت فيه، ولا الرسالة التي يراد إيصالها للطرف الآخر، وحتى وإن علموا فإنهم يتجاهلون.
وحتى لو أخذنا هذا الأمر في سياق الحرب النفسية، فإن مايجري أبعد مايكون عن الحرب النفسية، وإن كانت الحرب النفسية لها تأثير لايقل أهمية عن الحرب العسكرية على أرض الواقع، غير أن مايجري في وسائل الإعلام ووكالات الأنباء ليس سوى تغطيات إعلامية يراد منها جذب أكبر عدد من المشاهدات والمتابعين، لجذب إعلانات تجارية.
فإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مثلاً، عن إرسال جنود إلى أوكرانيا، لايمكن وصفه بحرب نفسية ولا حتى إعلامية، ومع ذلك فقد استخدمته وسائل الإعلام لجذب أكبر عدد من المشاهدين، وبالتالي حصلت تلك القنوات على إعلانات أكثر مما حقق لها إيرادات أكثر.
وعلى هذا الإعلان تهافت المحللون، بين مهلل ومرحب به، وناقد مقلل من شأنه، بينما الحقيقة أن هذا الإعلان ليس سوى جس نبض لروسيا من جهة، وفي نفس الوقت أراد ماكرون، التقرب من أمريكا وبريطانيا، وهو في الحقيقة لن يرسل قوات وربما حتى لم يفكر أصلاً في إرسالها.
والكلام ينطبق على التصريحات الروسية، وآخرها ماصرح به وزير الخارجية لافروف، في تحذيره لحلف الناتو، قائلاً:
"لا تلعبوا بالنار وترسلوا جنودكم إلى أوكرانيا. نحن نحذركم".
وهنا لابد من الإشارة إلى أن مايجري بين روسيا والغرب، سواءً في أوكرانيا، أو عبر أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والمنظمات المرتبطة بهما، وحتى في البنوك والشركات الكبرى، ليس فقط عصياً عن الإعلام، ولكن الإعلام يتحاشى البت فيه، أو الحديث عنه، لأنه سوف يكشف ما لايريدك الإعلام أن تعرفه.
وخذ أيضاً تصريح نتنياهو، بالهجوم على رفح!!.
وماذا ترتب على التصريح من ردود إعلامية وتصريحات عالمية، لمسؤولين، من هنا وهناك، ناهيك عما تداوله ولايزال يتداول في وكالات الأنباء، ووسائل الإعلام المختلفة.
بينما حقيقة الأمر أن نتنياهو، لايزال غارقاً إلى أذنيه في غزة، ويبحث عن مخرج لإطلاق الرهائن والمحتجزين هناك.
وقد لاتكون رفح هي الوجهة القادمة لنتنياهو، وإنما وسائل الإعلام وبعض المسؤلين، بالإضافة إلى المحللين الذين وضعوا في الأمر ماليس فيه.
وخذ أيضاً مثالاً آخر على بعد الإعلام عن مجريات الأحداث الفعلية، فيما يجري بين إيران والكيان الصهيوني.
فمنذ أن تم استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، والمسؤولون الإيرانيون يتهددون ويتوعدون، هم وأزلامهم في اليمن ولبنان، ولو تتابع قنواتهم الإعلامية سوف يصيبك الغثيان من كمية التضخم الإعلامي للقوة الإيرانية، ومع ذلك فلا المسؤلين الذين يتحدثون بيدهم الأمر، ولا المحللون في قنواتهم، يملكون المعلومات الصحيحة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لك أن تتأمل في آخر تلك المغالطات الإعلامية، مما جرى تداوله مساء الأمس، من أن وزير الدفاع الإيراني، أمر بتعليق جميع الرحلات الجوية من وإلى طهران، ابتداءً من منتصف الليل!!!، وماهي إلا دقائق حتى تراجعت تلك القنوات وسحبت ذلك الخبر.
وفي حقيقة الأمر ليست فقط الأخبار السياسية والاقتصادية والعسكرية التي يتم التلاعب فيها، بتضخيمها تارةً، وتحريفها تارةً أخرى، من قبل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي، بل أن حتى الأخبار الصحية والرياضية والمجتمعية لا تخلو من هذا، وماذاك إلا بسبب أن أغلب القائمين عليها ليسوا من المتخصصين فيها، بل أنهم لابيحثون إلا عن الإثارة التي تجذب لهم متابعين، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة.
وإذا ما أخذنا في الإعتبار الثورة التقنية الحاصلة الآن، لاسيما مع توافر برامج الذكاء الاصطناعي، التي تستطيع كتابة وتصميم صوراً بل وحتى مقاطع فيديو، عن أحداث ليس لها وجود، فإن الأمر يستحق أن نتفحص كل خبر يأتينا من هنا وهناك.
إن الحقيقة التي لاينبغي إغفالها، هي أن من يصنع الأحداث على أرض الواقع، هي الأفعال وليست التصريحات والأقوال في مواقع التواصل ووسائل الإعلام.
وأن الذين يكتبون التاريخ فعلاً، ويسطرون البطولات هم أبعد الناس عن الإعلام وما يجري فيه.
صحيح أن الإعلام له دور كبير، وكما قيل لاتوجد نار بلا دخان، ويمكن للإعلام أن يلعب أدوار عظيمة في حياة الشعوب سواءً في السلم أو الحرب، ولكن للذين يقرأون ماوراء الأخبار، وليس لمن يكتفي بقراءة العناوين، أو متابعة المشاهير من وكالات الأنباء ووسائل الإعلام.
ولعلك أخي القارئ الكريم، تتفق معي، إذا ما قلت لك أن أغلب القنوات الإعلامية، ووسائل التواصل الإجتماعية، ليست سوى أدوات يمتلكها ويديرها أجهزة مخابرات، وهي تدور في فلك من يديرها، وتسبّح بحمد من يمتلكها، فلا تغرنك الشعارات الصحفية، والتنظيرات الإعلامية عن حرية الصحافة، والبحث عن الحقيقة، والغوص في الحقائق وكشف المستور، فكلّها شعارات برّاقة وعبارات جذّابة، إن لم تكن كذابة.
جميع وسائل الإعلام بلا استثناء، يتحكم بها ويسيّر شؤنها أشخاص يريدونك أن تشاهد الأمور والأحداث من زاويتهم، يريدونك ليس فقط تصدق روياتهم، بل يردونك أن تؤمن بقصتهم، التي فصّلوها لك بمقاييسهم، واختاروها لك بعنايتهم.
إن الأحداث التي يتم تسليط الضوء عليها إعلامياً، هي في الحقيقة أحداث هامشية، وهي أبعد ماتكون عن الأحداث التي يجري نقاشها وتداولها في أروقة السياسة ودهاليز صنع القرار.
وحتى أحداث الحرب والدمار التي يتم تدويلها في وسائل الإعلام، اختيرت لك بعناية خاصة من قبل أشخاص لايردونك أن تشاهد غيرها.
وإذا ما اتفقنا على ماسبق، فإن الحرب الروسية الأوكرانية، ومايجري فيها، ليس هو مايتم ترديده علينا في وسائل الإعلام، سواءً الروسية أو الغربية.
والحال كذلك في غزة، ونفس الأمر فيما يجري بين روسيا وحلف الناتو.
وإن كنت أرى أن الحرب الروسية ضد أوروبا، أشد ضرارةً، ولكنها ومن الطرفين تشهد تضليلاً إعلامياً، وتشتيتاً صحفياً لم يشهده العالم من قبل.
ولكن وفي كل الأحوال فالأفعال أكثر وضوحاً وفصاحةً من الكلام، وكما قال الشاعر الأندلسي، إبن قلاقس:
ألا إنما كسْبُ المكارمِ عادةٌ
وكلُّ امرئٍ يجري على ما يُعوّدُ
وكل حديثٍ كان أو هو كائنٌ
شمائلُه تُنبيكَ عنه وتشهدُ
وقد تنطِقُ الأفعالُ والفمُ صامتٌ
ويأتيك بالأخبارِ من لا تُزوّدُ
وأصدَقُ مدحٍ ما تردِّدُه العِدى
وتشهدُ فيه أنه ليس يُجْحَدُ.
MelhiSharahili@gmail.com
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات